يجتاحني إحساس بالأمل، في كل مرّة نواجه فيها واقعاً اقتصادياً صعباً، او ازمة سياسية او حرباً، أمل في انّ العقلية المتحكّمة بوضع السياسات، ستُدرك اهمية الصناعة في الأزمات، ستلمس لمس اليد مدى ارتباط الصناعة بالسيادة، ومدى اهميتها لرفع قيمة الصادرات.
لقد تعرّضت الصناعة اللبنانية لتدمير ممنهج، بسبب الإقتناع الثابت بأنّ لبنان هو بلد غير صناعي، بتفضيل للاقتصاد الريعي على الاقتصاد المنتج، فتمّ اسقاط التعريفات الجمركية بضربة واحدة، تاركين الصناعة تواجه منافسة شرسة من دول تدعم أكلاف الانتاج، وذلك تحت حجة الإنضمام الى منظمة التجارة العالمية، علماً انّ الإجراء الوحيد الذي تمّ اتخاذه هو الغاء الحمايات الجمركية، فيما بقيت كل ممارسات الاحتكار الاخرى، وتمّ حماية بعض الصناعات، ليس بسبب خطة مدروسة، بل حمايات لمن هو محظوظ في علاقاته مع السلطة.
وبالارقام، في عام 2018، شكّل القطاع الصناعي نحو 8 % من الناتج المحلي الإجمالي (4.2 مليارات دولار أميركي) ووظّف 20 % من القوى العاملة المحلية (نحو 318,000 موظف) وهناك أكثر من 4700 شركة صناعية في لبنان بنسبة 26% أو 1245 صناعة تصنّع المنتجات الغذائية الزراعية، تليها مواد البناء (12%) والمنتجات الكيماوية (8%). وبلغت الصادرات الصناعية 3.5 مليارات دولار في 2019، ما يمثل 95% من إجمالي الصادرات اللبنانية. IDAL
وبدلاً من ان يتمّ اليوم جعل الاولوية زيادة الصادرات والحرص على عدم انخفاضها، نرى اهمالاً غير مسبوق في التطلّع الى حاجات الصناعيين.
والدليل الى التخبّط، انّه تمّ تسليم رقاب الصناعيين الى الصرافين، الذين تمّ منحهم دور المحقق والمقرّر في السماح للصناعيين بشراء الدولار لتسديد فواتير المواد الخام والقطع الصناعية وغيرها. فبدلاً من انشاء صندوق تحت اشراف المصرف المركزي، يسهّل للصناعيين شراء المواد الأولية للصناعة، اصبح الصناعيون تحت رحمة الصرافين.
والأسوأ، الطرح الذي يتمّ التداول به، عن فرض ضريبة على مادة المازوت، فبدلاً من الاستفادة من انخفاض اسعار الطاقة عالمياً، ما يشكّل دفعاً للصناعة، نرى الإصرار على حرمان الصناعة من اي تسهيل جديد لمصلحتها.
مثلاً، صرفت مصر أخيراً أكثر من ملياري جنيه من صندوق تنمية الصادرات، تنفيذًا للتكليفات الرئاسية بردّ الأعباء التصديرية المتأخّرة للمصدّرين، ومن المقرّر صرف أكثر من مليار جنيه أخرى، وذلك لمساندة القطاعات الاقتصادية والتصديرية، والحفاظ على القدرات الإنتاجية.
وهنا نبذة عن بعض ما يعانيه الصناعي في لبنان:
– أكلاف التصدير في لبنان مرتفعة، علماً انّ الظروف الاقتصادية حالياً تحتّم ازالة كل العوائق عن التصدير لتصحيح الميزان التجاري، فيكلّف وضع مستوعب على ظهر باخرة 800$، اقترحنا اعفاء التصدير من كل الرسوم وتحديد سقف للـFIO لا يتعدّى الـ300 الف ل.ل، ويجب ان يشمل بون التسلّم او التسليم. فنتفاجأ بإلزام الصناعي ان يدفع الـ FIO نقداً وبالدولار الاميركي…
– رسوم تصديق معاملات التصدير، وليست العقدة في الرسوم بحدّ ذاتها، بل في الوقت الذي يحتاجه للمرور بكافة مراحل التصديق، وما ادراكم ما البيروقراطية الادارية. اقترحنا خلق خط Fast Track لمعاملات التصدير ومنع» الحلوينات» والرشاوى كلياً على عمليات التصدير وتجنّب التأخير ودفع الـDemurrage .
– خدمة البريد السريع هي اساسية اليوم للمصانع والشركات للحصول على نماذج صناعية، وخصوصاً انّ لبنان يعاني نقصاً في قطع الغيار الصناعية بسبب عدم وجود وكلاء محليين للماكينات الصناعية، وهذا بسبب الحجم الصغير للقطاع الصناعي. كل قطع الغيار الصناعية معفية من الرسوم، ولكن ادارة الجمارك تعمد الى تعجيز الصناعي لكي يثبت انّ القطعة صناعية عبر طلب الكاتالوغ، وبسبب التأخير في المعاملات يضطر الصناعي الى دفع الرسوم.
– فرض اشتراكات ضمان على العمال الاجانب، وهم لا يستفيدون من تقديماته، ضريبة جديدة على الصناعي، الّا انّ أسوأ ما فيها انّها تخالف مبادئ حقوق الانسان.
– إلزام الصناعي ببراءة الذمّة من الضمان الاجتماعي ليتمكن من التصدير، علماً انّه يمكن ربط براءة الذمة بكل المعاملات والغاؤها عن التصدير .
– أكلاف اتصالات مرتفعة وضرائب بلدية وغيرها، من دون وجود اي حوافز للصناعي.
– كلفة شحن جوي مرتفعة في ظلّ حصار بري.
-لا دعم او توجيه للصناعيين للمشاركة في المعارض الخارجية وتوجيههم نحو السبل الافضل لإيجاد اسواق جديدة، وهذا دور اساسي لغرف التجارة والصناعة والزراعة، والتي تحوّلت غرفاً لدعم التجارة حصراً وتشجيع الاستيراد.
لا نحتاج اليوم الى خطط بالماكرو، لا نحتاج الى تحديد اي صناعات تصلح للبنان، نحن في أشدّ الحاجة الى زيادة الصادرات وتطوير الصناعات. فالاقتصاد المنتج ليس شعاراً يتمّ استعماله من دون فهم معناه، الانتاج هو عمل متواصل، هو شفافية في الإجراءات وتحديث الادارة، زيادة التنافسية وتطوير الابتكار والريادة. وبعد الازمة الحالية، بات واضحاً انّ لبنان عليه ان يتجّه الى انتاج يتعلّق بأمنه القومي انطلاقاً من انتاج المواد الاولية للصناعات.
الأكثر