الرهانات على اتفاق نووي مع إيران «مرتفعة جداً». والبدائل «رهيبة جداً». هذا ما تقوله الخارجية الأميركية. أما الحرب على «داعش» في العراق فطويلة وفي سورية أطول. وأما محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين فتنتظر انتفاضة ثالثة بدأت تسخن انطلاقاً من القدس. وأما «الربيع العربي» الذي راهنت عليه واشنطن وكثيرون، فلم يبق من عنوانه سوى ما جرى ويجرى في تونس. وأما توجه الإدارة الأميركية إلى إشراك القوى الكبرى في إدارة شؤون العالم بدل التفرد، فانتهى بصراع جديد مفتوح بين الغرب عموماً وروسيا، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط. الأزمات المتجددة في الإقليم لم تتح للرئيس باراك أوباما أن ينقل اهتماماته إلى المحيط الهادئ لاحتواء الصين أو بناء شراكة معها توفر حماية لمصالح أميركا وحلفائها من أقصى الشرق إلى جنوب شرقي آسيا ووسطها. من استراليا إلى اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام…
حتى لو قرر الرئيس أوباما وعزم على تجديد مساعيه لخوض تجربة تسوية كل هذه الأزمات فلن يكون أمامه الوقت الكافي. سيغادر في 2017. هذا الرئيس الذي سكنه منذ اليوم الأول هاجس ألا يكون مجرد رئيس في لائحة القادة الأميركيين، لم يبق أمامه ميدان يسجل فيه اختلافه وتميزه. أو بالأحرى لم يعد لديه متسع من الوقت لإطفاء الحرائق المشتعلة في معظم أنحاء «الشرق الأوسط الكبير». الأمل الوحيد المفتوح والمتاح له حتى نهاية الشهر المقبل هو في الملف النووي الإيراني. وقد راهن منذ دخوله البيت الأبيض على تسوية هذا الملف ليسجل له الأميركيون والتاريخ أنه أعاد تطبيع العلاقات مع الجمهورية الإسلامية بعد ثلاثة عقود ونيف من الصراع معها. كما سجلوا لريتشارد نيكسون «فتح» الصين! ولا تزال إدارته تعوّل في الأسابيع الأربعة المقبلة على تسوية مع طهران. وترى إلى الديبلوماسية هنا أنها «تستحق المخاطرة».
اتفاق الدول الست الكبرى مع إيران قاب قوسين وأدنى. هذا ما تريده إدارة أوباما. وهذا ما تريده حكومة الرئيس حسن روحاني. على رغم كثرة المعترضين في الداخل هنا والداخل هناك فضلاً عن قوى أخرى. الدوائر الأميركية المعنية بالمفاوضات النووية تبدي تفاؤلاً كبيراً. وتسجل لطهران جدّيتها بالتزامها الحرفي بنود الاتفاق المبدئي الذي أُبرم في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي لستة أشهر، ثم مُدّد فترة مماثلة. وتسجل أن ثمة إصراراً ومصلحة مشتركة أميركية – إيرانية في طي هذه الصفحة، لأن البدائل «رهيبة جداً»، كما عبرت ويندي شيرمان مساعدة الوزير جون كيري للشؤون السياسية. وهي حين تحذر من لجوء الجميع إلى التصعيد إذا لم يُبرم الاتفاق المنتظر، فإنما تحذر بلغة ديبلوماسية من… الحرب! إذ لا مجال بعد ذلك ولا فاعلية لأي عقوبات، حتى وإن أُدخل النفط والغاز في الصراع سلاحاً مؤثراً ومؤلماً.
المبالغون في التفاؤل بإبرام اتفاق يتفقون على أن الرئيس أوباما الذي عمل بلا جدوى في السنوات الست الماضية على معالجة أزمات الشرق الأوسط سيغادر البيت الأبيض تاركاً لخلفه القضية الفلسطينية والأزمة السورية ومواصلة الحرب على الإرهاب و «داعش». سيغادر مخلّفاً ملفات أكثر سخونة من تلك التي خلّفها له سلفه جورج بوش الإبن. لم يستطع الابتعاد من الشرق الأوسط. أعلن قبل سنتين استراتيجية جديدة تحمله إلى أقصى الشرق بعد عودة الجنود إلى الديار من حروب بوش الاستباقية. أنزل المنطقة العربية من رأس قائمة الأولويات. لكنه سرعان ما وجد نفسه وسط المعمعة الإقليمية وقد اتسعت حرائقها. المجال الوحيد الذي يفتح له باباً إلى التاريخ هو «فتح» إيران. إلى ذلك، لا يمكن أن يسمح بحصول إيران على قنبلتها النووية، لأن ذلك سيقود إلى سباق تسلح خطير وانتشار نووي من تركيا إلى مصر مروراً بالسعودية وغيرها… وهو ما لا ترغب فيه حكماً أي من الدول الكبرى. ومثله يعتقد المبالغون في التفاؤل بأن الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الرئيس روحاني ليترجم رغبة شعبه في التغيير هي القطار النووي يخترق به أسوار الحصار المضروب على الجمهورية واقتصادها ومجتمعها ويُسقط العقوبات القاتلة… خلاف ذلك لا يبقى أي معنى لولايته إذا كان سيواصل نهج سلفه محمود أحمدي نجاد!
الطريق إلى الاتفاق ليست معبّدة. والصورة ليست بهذه الوردية. فالشرق الأوسط يغلي وعلى أبواب تغييرات جذرية. كل المنظومة التي قامت إثر سقوط السلطنة العثمانية ورحيل الانتداب الأوروبي انهارت. وثمة دول وطنية وكيانات تهاوت. وسيقود أي اتفاق بين الدول الست الكبرى وإيران إلى تغيير كبير في الإقليم. وستطاول تداعياته المنطقة العربية عموماً، خصوصاً دول الخليج التي تتحسس أطرافها من النار التي تقترب من كل الاتجاهات. وكان «ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي» الأول الذي أقامه «مركز الإمارات للسياسات» مطلع الأسبوع الماضي جمع جمهرة من الباحثين والديبلوماسيين والمسؤولين من الولايات المتحدة وأوروبا و «الناتو» وروسيا والصين وإيران وتركيا ودول مجلس التعاون ودول عربية أخرى. وتناولت الحوارات أثر استراتيجيات القوى العالمية ورؤاها الأمنية في بلورة نظام اقليمي في الخليج العربي. والأثر الجيوسياسي للمشاريع الإقليمية على الخليج. وأثر البؤر الساخنة في المنطقة على مجلس التعاون.
باحثة أميركية في الملتقى تحدثت بثقة أن الاتفاق النووي مع طهران سيوقّع. وسيؤدي ذلك إلى إغضاب العرب. ويتيح لأميركا الخروج من المنطقة، مما يتيح لإيران أن تكون الأقوى. وستتزعزع ثقة الخليجيين بالولايات المتحدة. وساقت اتهامات لإدارة أوباما بأنها ستترك أمر الحرب على الإرهاب لخليفتها. وسجلت أن الحرب على «داعش» تنم عن اهتمام أميركي ولكن من بعيد! أحد المشاركين وصف المنطقة بأنها تعيش ظروفاً مشابهة لتلك التي عاشتها عشية الانسحاب البريطاني من منطقة الخليج. ولاحظ أن هناك خيارات في المنطقة، فإما صراع وإما تعاون. وحض على حلول داخلية للتعاون الإقليمي، بدل خوض حروب بالوكالة!
بعيداً من التوقعات والتكهنات، ثمة واقع معروف هو أن إدارة الرئيس أوباما تلقي بكل ثقلها من أجل إبرام اتفاق مع إيران. وتحدثت روسيا بعد محادثات بين وزير خارجيتها سيرغي لافرورف ونظيره الأميركي كيري عن «فرص حقيقية» في المفاوضات للتوصل إلى «اتفاقات ملموسة». صحيح أن الإدارة مهتمة بالقضايا الأخرى في الشرق الأوسط، لكن الصحيح أيضاً أنها ليست مستعجلة في هذا المجال استعجالها طي صفحة البرنامج النووي الإيراني. بعد التثبت من عدم قدرة الجمهورية الإسلامية على انتاج سلاحها النووي، يمكن الانصراف إلى قضايا المنطقة الأخرى، من فلسطين إلى سورية والعراق واليمن والشمال الأفريقي. ولا حاجة إلى التلويح بـ «البدائل الرهيبة جداً» إذا أخفقت الدول الست وأُقفل الباب بعد الرابع والعشرين من الشهر المقبل. فهل هناك أشد قساوة مما يعيش العالم العربي، من ليبيا ومصر المعنية بحروب جارتها مقدار اهتمامها بالحرب على الإرهاب في سيناء. ومن اليمن إلى فلسطين والعراق وسورية ولبنان المتقدم بخطى واثقة وثابتة نحو الأتون!
يبقى أن الدينامية التي تحكم الملف النووي والمفاوضات الديبلوماسية ليست رهن رغبات أو قرارات الرئيسين أوباما وروحاني وحدهما. هناك الظروف التي تعيشها المنطقة وتعقيداتها وتداعياتها في أكثر من موقع. وهناك اللاعبون الآخرون وحساباتهم ومصالحهم. وأبعد من ذلك هناك الدور المتنامي لدول مجلس التعاون الخليجي. ودور مماثل للقوى والمكونات المحلية المذهبية والإثنية التي قامت على أنقاض دول، وقام بعضها مقام مؤسسات دينية عريقة، وسببت وتسبب كل هذه الانهيارات، وهذه الحرب الأهلية داخل الإسلام، كما رأى الملك عبدالله الثاني. ولا شك في أن لهذه الظروف وهذه العناصر ديناميات خاصة تترك أثرها الفاعل في اعتماد أية استراتيجيات دولية وإقليمية سيكون لها دور فاعل في إعادة بناء النظام الإقليمي الجديد للعالم العربي كله. انقضت عشرة أعوام حتى الآن في البحث عن تسوية للبرنامج النووي الإيراني. وإذا حملت الأسابيع المقبلة بشائر الاتفاق فسيكون خطوة أولى على طريق طويل. قد تمر سنوات في البحث عن تفاهم على حدود الدور وتوزيع المواقع على القوى الإقليمية، العربية والتركية والإيرانية… والإسرائيلية. وهذه وزيرة القضاء الإسرائيلي تسيبي ليفني تعتقد بأنه لا يمكن القضاء على «داعش» من دون حل القضية الفلسطينية. ورأت أن «الأمرين مرتبطان أحدهما بالآخر. وأن بإمكان التحالف الغربي – العربي أن يشكل إطاراً للتسوية».
الجميع يريد أن يحجز له مكاناً على الطاولة بعد أن تحط الحروب رحالها. «البدائل الرهيبة جداً» تدور رحاها في طول المنطقة وعرضها. والقرارات بوقفها ستكون رهن الاتفاق الموعود مع إيران. قد يفاقم المتضررون هذه الحروب. وقد يستخدمها آخرون عند فتح الملفات الإقليمية. تركيا تساوم التحالف وستظل تساوم في كل خطوة. وإيران التي راعها صعود «أبي بكر البغدادي» دفعت عبد الملك الحوثي إلى مقدم الصورة. ولن تكون السباحة بين ضفتي شبه الجزيرة وبلاد الشام نزهة. الرئيس أوباما سيودّع البيت الأبيض تاركاً خلفه حروباً مفتوحة. ومهندسو الحروب الحوثية سيحرقون أصابعهم. وسينضم اليمن إلى العراق وسورية ولبنان كساحة استنزاف أخرى لإيران وآخرين. هل غطى دخان الحرب على «الدولة الإسلامية» غبار الحرب التي تخوضها «طالبان» من عشر سنوات ونيف؟ وهل غطى على المساعي للتفاوض معها؟ هل نشهد بعد عقد من الزمن سعياً إلى مفاوضات مماثلة مع تنظيم «داعش» وأخواته؟