لا بد من الاعتراف بما لدى الطبقة السياسية اللبنانية من مواهب وقدرات فائقة في المناورة وتضليل الرأي العام وطلب الشيء وعكسه في آن، وفي اخفاء النوايا والمواقف الفعلية وقول ما لا تضمره وفي عدم المطابقة بين الأقوال والأفعال واحياناً التعارض والتناقض فيما بينها… ولا تجد هذه الطبقة مشكلة مع الرأي العام الذي لا يحاسب، ومع الناس و «ذاكرتهم المثقوبة والانتقائية» ومع «شعب اللحظة» التي هو فيها.
هذا ما يحصل حالياً عندما نشهد تصرفات وخطوات توحي كأن الانتخابات النيابية حاصلة مع اندفاع مرشحي الاحزاب وغيرهم إلى تقديم ترشيحاتهم الرسمية ومع المزايدة في تأييد اجراء الانتخابات والحرص على تداول السلطة، في وقت تعرف هذه الطبقة السياسية ان التمديد لمجلس النواب وللمرة الثانية حاصل حتماً وحكماً… وحتى القيادات التي جاهرت برفض التمديد تعرف ان لا مفر منه، وأنه قدر وأمر واقع أكثر مما هو خيار وقرار. لكن كل ما يحصل اليوم في هذا المجال من مزايدات انتخابية هو من باب « النكنكات السياسية» التي اصبحت مكشوفة الأهداف والأسباب.
وهنا وعلى سبيل المثال لا الحصر فان العماد ميشال عون لم يكن ليطرق باب الانتخابات النيابية لو فُتح له باب قصر بعبدا. وهو أراد الالتفاف على الحصار السياسي المضروب عليه رئاسياً بالاندفاع إلى الأمام تارة باتجاه الانتخابات النيابية وتارة أخرى باتجاه انتخاب الرئيس من الشعب لاثبات أنه الأقوى تمثيلاً وشعبية والأحق بتولي سدة الرئاسة الأولى. ولكن عون يعرف في قرارة نفسه ان لا هذه ولا تلك ممكنة، وان التمديد النيابي حاصل وانه رغم تقديم ترشيحه مع اعضاء كتلته فانه في نهاية المطاف سيخضع للواقع كما هو.
والدكتور سمير جعجع لم يكن ليؤيد اجراء الانتخابات النيابية متمايزاً عن حلفائه في « تيار المستقبل» وقوى «14 آذار»، لو لم يرفع العماد عون السقف السياسي إلى هذا الحدّ. وان مواقف سمير جعجع من الانتخابات تأتي في سياق الرد على مواقف العماد ميشال عون والذي يعتبرها جعجع تحدٍ له ولحزبه أمام الرأي العام اللبناني عموماً والرأي العام المسيحي خصوصاً.
سمير جعجع لن يقبل ان يزايد عليه عون مسيحياً وان يقال عنه انه الأقوى والأكثر تمثيلاً في الشارع، من هنا أتى قبول جعجع للتحدي حتى لا يُقال أنه خائف من الانتخابات أو غير واثق بوضعه مع أنه يعرف في قرارة نفسه انه لا انتخابات.
حتى الرئيس نبيه بري فانه في اعتراضه على التمديد وتشجيعه على الانتخابات انما ينطلق من أوضاع وحسابات خاصة أولها ان بري لا يريد ان يُحمّل للمرة الثانية في غضون عامين مسؤولية التمديد وانه هو من هندسه ونسج خيوطه بالتنسيق مع جنبلاط والحريري. كما انه لا يريد تمديداً قصير المدى يكرس حالة مؤسساتية وسياسية غير مستقرة وانما يريد تمديداً ثانياً يكمل الأول ويجعل ولاية المجلس مكتملة لأربع سنوات مضى منها سنة وخمسة أشهر وبقي منها سنتان وسبعة أشهر.
ولكن ما يريده الرئيس بري بشكل أساسي هو الخروج من دائرة الضغط وسياسة الابتزاز التي تمارس عليه عبر مقاطعة اعمال مجلس النواب وشله ووقف عمله التشريعي. من هنا أتى سؤال بري عن جدوى التمديد لمجلس النواب إذا استمر معطلاً، ولهذا السبب اشترط وطلب ان يكون التمديد مقروناً بضمانات وتعهدات وبان يمارس مجلس النواب دوره في التشريع والرقابة وان يكون مركزاً وإطاراً لحوار وطني دائم ولتفاعل الأراء والمواقف.
ولكن الرئيس بري يدرك في قرارة نفسه ايضاً كما كل قيادات الصف الأول ان الظروف لا تسمح باجراء الانتخابات لذلك فانه «يقاتل سياسياً» لتحسين شروط التمديد من اجل ضمان دور نيابي فاعل ومنتج وللاتفاق على مرحلة ما بعد التمديد بما يؤدي إلى اكتمال عقد المؤسسات وسد الفراغات والثغرات والمضيّ قدماً في حركة الاتصالات وترتيب مخارج لأزمة الحكم والحؤول دون تطورها إلى أزمة نظام… ومن هذه المخارج التمديد لمجلس النواب على أن يكون مقروناً بتعهدات وضمانات تسمح للمجلس بالتشريع ولعب دوره المنتج والاتفاق بين القوى السياسية على انتخاب رئيس للجمهورية ووضع قانون جديد للانتخابات يراعي المساواة بين جميع اللبنانيين.
أسباب كثيرة تحول دون اجراء انتخابات صحيحة وسليمة، وأولى الأسباب تتعلق بالأوضاع الأمنية ولكنها ليست السبب الوحيد… فهناك ايضاً عوامل أمنية وسياسية ودستورية تدفع باتجاه تأجيل الانتخابات وتجعل من عملية اجرائها محفوفة بالمخاطر والمجازفة:
1 – هناك أولاً الوضع الأمني غير المريح وغير المطمئن خصوصاً وضع عرسال والمناطق المحيطة والذي يهدد أمن لبنان بأكمله إضافة إلى التراجع الحاصل في أمن طرابلس.
وزير الداخلية نهاد المشنوق أعلن بكل جرأة ان وزارة الداخلية انجزت ما عليها من تحضيرات لوجستية وتقنية ولكن الوضع الأمني لا يسمح باجراء الانتخابات. ان ما يقوله وزير الداخلية يعكس الواقع وينطبق عليه القول «خير الكلام ما قلّ ودلّ». والسؤال المطروح من يضمن في ظل هذه التوترات السياسية والطائفية وتزايد التطرف ان لا تحصل صدامات ومشاكل وعمليات تفجير انتحارية كما حدث في العراق. ومن يضمن «أمن الانتخابات» وحماية أرواح المرشحين والناخبين على حد سواء؟
2 – هناك ثانياًَ الموانع السياسية المتعلقة بالفراغ الرئاسي من جهة وباستمرار قانون الـ 60 الانتخابي من جهة ثانية. فكيف يرتضي السياسيون اللبنانيون عموماً، والمسيحيون منهم خصوصاً، ان تجري انتخابات نيابية في ظل تعذر اجراء الانتخابات الرئاسية وان يقوم مجلس نيابي جديد من دون ان يكون هناك رئيس للجمهورية مع ما لذلك من امعان في تهميش وتجاهل موقع رئاسة الجمهورية والتقليل من شأنها وقيمتها…
وهل يعقل اجراء انتخابات على أساس قانون الـ 60 الساري المفعول حالياً الجائر والمجحف بحق المسيحيين وما الجدوى من اجراء انتخابات إذا لم تكن على أساس قانون جديد ينتج مجلساً نيابياً جديداً في وجوهه وأدائه وتطلعاته ؟ ان اجراء الانتخابات على أساس القانون النافذ أي الـ 60 يعني بكل بساطة إعادة انتاج الطبقة السياسية ذاتها بكل ما فيها من شوائب وفساد وتسلط إضافة إلى شعور طائفة بأمها وأبوها بالاحباط والتجاهل نتيجة التهميش والاستهتار بدورها وموقعها.
ليبقى السؤال ايضاً: لماذا الدعوة إلى انتخابات تأخذ وقتاً وجهداً ومالاً ولا تغيّر في الواقع شيئاً؟ فتبقى الكتل نفسها والتحالفات نفسها والوجوه تقريباً نفسها والأهم الاحجام نفسها.
3 – هناك ثالثاً المحاذير الدستورية وهذه هي العائق الأكبر والأهم، ان اجراء الانتخابات في ظل شغور مركز رئاسة الجمهورية يعني الوصول إلى فراغ شامل في السلطة التنفيذية مع إضافة الفراغ الحكومي «الرئاسي». ذلك ان الحكومة تعتبر مستقيلة حكماً بعد انتخاب مجلس نيابي جديد حسب الدستور، والسؤال: من سيقبل استقالة الحكومة الحالية ومن يجري الاستشارات النيابية الملزمة ومن يصدر قرار تكليف الرئيس المسمى ومن يصدر مراسيم الحكومة ؟ وبهذا المعنى يكون رفض التمديد المطروح لمجلس النواب بداية لادخال البلاد في الفراغ الشامل والقاتل.
وإذا كان التمديد خياراً سيئاً فان الفراغ هو الأسوأ والأخطر ويدفع بالأزمة إلى مستويات متقدمة لتصبح أزمة نظام ويدفع باتجاه «مؤتمر تأسيسي» يكون في حده الأدنى أكثر من الدوحة وأقل من الطائف مع العلم ان المجتمع الدولي ليس حاضراً اليوم لرعاية أي مؤتمر من هذا النوع كون لبنان موضوع في هذه الفترة في الثلاجة وهو ليس من الأولوية على الساحة الشرق الأوسطية مما يعني الذهاب بالبلاد إلى المجهول أو إلى الهاوية.
وفي هذا المجال يبقى السؤال: هل ان « المؤتمر التأسيسي» لم يعد مجرد تكهنات بل واقع لا مفر منه؟
إذن حسنات التمديد أكبر من سيئاته، فالمطلوب التوقف عن المزايدات والمناورات المكشوفة وإضاعة وقت الناس في موضوع الانتخابات والدعوة إليها، ويجب الانصراف إلى ما هو أهم بكثير للتركيز على أربع مسائل أساسية تساهم في تحصين الوضع الداخلي ورفع درجة مناعته وجهوزيته لمواجهة اخطار المرحلة. وهذه المسائل هي:
1- انتخاب رئيس جديد للجمهورية لأنه لا يجوز ان يبقى الرأس مفصولاً عن الجسد حتى لا تصبح البلاد «جسداً من دون روح».
2 – دعم الجيش والقوى الأمنية بكل الوسائل والطرق لتعزيز عديدها وعتادها وقدراتها، لأن الاستثمار في الأمن هو الأهم في هذه المرحلة الخطيرة والحساسة والمصيرية والالتفاف حول المؤسسة العسكرية واخراجها من الصراع السياسي وتحييدها عن الطموحات الرئاسية.
3 – وضع قانون جديد للانتخابات يسمح بالرهان على اصلاحات سياسية وإدارية وعلى تغيير في السلطة والذهنية السياسية إضافة إلى ما يمكن لهذا القانون العادل من إقامة توازن سياسي وطائفي يكون مبنياً على أساس التمثيل الصحيح «للطوائف» في لبنان.
4 – إيلاء مسألة الاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية اهتماماً وعناية بعدما وصلت الأوضاع الحياتية والاجتماعية إلى ما دون خط الفقر وباتت تهدد الانسان اللبناني في كرامته وحياته… وباختصار يجب البت وفي اسرع وقت ممكن بكل الملفات العالقة بدءاً من سلسلة الرتب والرواتب من اجل فك أسر المواطن اللبناني الذي بات رهينة الانقسامات والخلافات السياسية…