تنشأ مشكلة مصداقية السياسة النقدية عندما يعتمد سلوك الأفرقاء المؤتمنين علىها استراتيجية مُباغتة الجمهور والتسبّب بالتضخم المفاجئ، خاصة عبر طباعة النقد، وغالباً وفق حاجات وطلب السلطات المالية والسياسية للالتفاف على توقّعات السوق، فيشعر الناس، ولو لفترة وجيزة، أنّ ثمة تحسّناً بالسيولة وبقدرتهم الشرائية وبالنشاط الاقتصادي في البلاد فيكافئون من هم في موقع القرار بتجديد الثقة بهم عند أول استحقاق انتخابي… هذا طبعاً يحصل في غياب استقلالية السلطة النقدية (المصرف المركزي) عن السلطة المالية (وزارة المال والحكومة مجتمعة)… إلّا أن «إيجابيات» التضخّم المفاجئ على المدى القصير ما تلبث أن تتبخّر على المدى المتوسّط، فيضمحلّ أثر فائض السيولة على الحركة الاقتصادية وفرص العمل ولا يبقى سوى سلبيات التضخّم… فيَعي الناس فداحة هذه الخيار ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد تجديد الثقة لمَن اتخذوه وتسببوا بتكلفته… لذا، غالباً ما نصادف أسلوب زيادة السيولة والالتفاف على توقعات الجمهور قبَيل الفترات الانتخابية… ولكن بعد تكرار هذه العملية وزيادة وعي الناس تسقط مفاعيل التضخم المفاجئ حتى على المدى المنظور، وتضطر السلطات النقدية للبحث الجدي في استعادة ثقة الجمهورية وتعزيز مصداقية سياساتها… من هنا أهمية التعريف العلمي بمفهوم مصداقية السياسة النقدية، مشاكل وتكاليف افتقادها، والوسائل الممكنة لاستعادتها…
علمياً، من المعروف انه حتى لو تبنّت المصارف المركزية أهدافاً متجددة ومتجانسة مع المعطيات الاقتصادية، فإنّ هذا لا يستبعد بالضرورة مشكلة مصداقية السياسة النقدية. في الواقع، اتخذ كيدلاند وبريسكوت منظوراً أوسع من منظور بارو جوردون [1983]، فبالنسبة لهما، ينشأ التناقض الزمني للخطط المُثلى بمجرد أن تضطر السلطات النقدية إلى اتخاذ قراراتها اليومية على أساس ما يتوقع أن يكون سياسة اقتصادية في المستقبل. وبالتالي، فإنّ السياسة النقدية التي يتم تحديدها في لحظة معينة قد لا تكون مثالية عند تحقيق توقعات العملاء الاقتصاديين، نظراً لإمكانية تغيّر المعطيات في الوقت الفاصل بين لحظة اتخاذ الخيارات ومرحلة تَلمّس نتائجها…
والمعروف أنّ الهدف الرئيسي لكل سياسة نقدية للمصرف المركزي يكمن في تأمين استقرار قيمة العملة الوطنية (داخلياً عبر ضبط التضخم الذي يرتبط الى حد كبير بزيادة طباعة النقد ونمو الكتلة النقدية لا سيما فائض السيولة، وخارجياً عبر ضبط استقرار سعر صرف العملة الوطنية إزاء العملاء الأجنبية).
يعود الجزء الأول من مشكلة مصداقية السياسة النقدية إلى وجود سلوك استشرافي، وبشكل أكثر دقة إلى وجود جمود في الاقتصاد يتطلّب من الأفرقاء الاقتصاديين اتخاذ قراراتهم الحالية على أساس الظروف الاقتصادية المستقبلية المتوقعة. في هذه الحالة، يكمن الحل المقترح في سياسة المشاركة للبنك المركزي التي تؤمّن الشفافية وتعزز الثقة. إذا بَدت مصداقية النوايا السياسية المستقبلية عنصراً حاسماً في تكوين التضخم الحالي، فإنّ الأمثل هو التزام البنك المركزي بسير سياسته المستقبلية من دون أي انحراف عن مسارها المُعلَن، بحيث يتمكن من استعادة ثقة الجمهور.
ومع ذلك، فإنّ صعوبة اعتماد سياسة طارئة لجميع الاحتمالات الممكنة أو حتى عدم اليقين النسبي في ما يتعلق بتمثيل أداء الاقتصاد، يفسّر لجوء المصارف المركزية إلى ممارسة السياسات التقديرية بدلاً من الالتزام الصارم.
الجانب الثاني للمشكلة يكمن في مصداقية الهدف المعلن من قبل البنك المركزي. يجب تصديق وفهم الإعلان عن السعي لتحقيق هدف مساو محدد من التضخم أو حتى مستوى سعر أكبر من قبل الوكلاء الاقتصاديين. ويلاحَظ أنّ إحدى الطرق لضمان أنّ البنك المركزي يتبع الهدف المعلَن بالفعل، يكمن في اعتماد استقلالية المصرف المركزي فعلياً وليس فقط في النصوص، وفقاً لنهج روجوف [1985] الذي تعكس نظرياته الاقتصادية أفضلية هذا الاختيار تماماً.
من هنا، تندرج المناقشة الخاصة باختيار هدف للبنك المركزي في إطار البحث عن وسيلة يمكن أن تكون بديلاً عن الالتزام، وبالتالي الاقتراب من الطريقة المثلى لمعرفة السياسة المناسبة مع الالتزام التام بالهدف المعلن لمستوى التضخم المرتقب. وبالتالي، من المتوقع أن يثير الجمود وصعوبة تنفيذ التوقعات العقلانية مشكلة مصداقية السياسة النقدية التي يمكن إدارتها في ظل أهداف ووسائل وتكاليف مدروسة.
في ظل مستوى التضخّم المستهدف، يجب أن تتبع تقلبات الأسعار غير المتوقعة تقلبات أسعار متوقعة هذه المرة تؤدي إلى تقلبات متوقعة في الإنتاج. لذلك، يبدو أن معدّل التضخّم المستهدف الأكثر تطلّباً للبنك المركزي يجعل من الممكن حل مشكلة مصداقية السياسة النقدية جزئياً. كما تؤدي الاستجابات المختلفة للسياسة النقدية في ظل هذين النوعين من الأهداف إلى مسارات تنمية متميزة للتضخم والناتج.
وقد ثبت أنّ تحديد هدف مستوى االتضخّم يمكنه تحسين مصداقية السياسة النقدية، ويُظهِر الاقتصادي روجوف [1995] أنّ تمكين المصرف المركزي من استهداف مستوى التضخّم يتطلّب اختيار حاكم “محافظ” للمصرف المركزي، يكون لديه “استشعار” و”رفض” لتقلب مستوى الأسعار ومَيل لتثبيت مستوى تضخّم أقل من الذي يتطلّع إليه معظم الجمهور. ما ينبغي أن يكون لهدف مستوى التضخّم الذي يؤدي إلى تجانس أكثر وضوحاً لردود فعل السياسة النقدية وتأثير إيجابي في تقلب أسعار الفائدة، بغضّ النظر عن عواقب ذلك على المفاضلة بين استقرار التضخم والإنتاج.
وإذا افترضنا، وفق النظرة الكلاسيكية، أن العملاء الاقتصاديين لديهم توقعات عقلانية، يصبح من الصعب على السلطة النقدية أن تأخذهم “على حين غرّة” وتفاجئهم بمستوى تضخّم أعلى ممّا يمكن توقّعه وفق المعطيات الاقتصادية العامة. ومع ذلك، يبدو أنه بسبب وجود التوقعات العقلانية، تواجِه السلطات النقدية قيوداً على المصداقية تدفعها إلى ممارسة سياسة نقدية توسعية. ولا يمكن رفع هذا القيد في حد ذاته إلا من خلال استحواذ البنك المركزي على توقعات حسن السلوك.
إذا أدخل الوكلاء الاقتصاديون رغبة السلطات النقدية في اكتساب سمعة معينة في توقعاتهم ، فإن النتائج السلبية (من حيث التوظيف) لسياسة إزالة التضخم تقلّ أيضاً. نتيجة لذلك، يرتبط الاستقرار النقدي بسمعة السلطة النقدية. يبقى أن نرى كيف يمكن للسلطة النقدية أن تقنع الوكلاء الاقتصاديين برغبتها في الدفاع عن سمعتها بشكل مستدام؟ هنا، نلاحظ أن عاملين يمكن أن يساعدا في استعادة مصداقية السياسة النقدية: نظام سعر الصرف الثابت واستقلالية البنك المركزي.
البحث عن المصداقية من خلال استقلالية البنك المركزي
تمثّل استقلالية المصرف المركزي وسيلة أساسية لتعزيز مصداقية السياسة النقدية إزاء السلطة السياسية، والتأكد من أنه يعطي الأولوية للحفاظ على الاستقرار النقدي، بشرط الحفاظ على الحوار المستمر بين البنك المركزي والسلطة المالية، وتجنّب تناقض الأهداف بين السياستين النقدية والمالية، كما حصل في حالة لبنان في مرحلة الثمانينات وبداية التسعينات.
وقد اعتبرت الأدبيات الاقتصادية أن المصدر الرئيسي لمشاكل المصداقية يكمن في وجود تشوّهات في سوق العمل تُشجّع الحكومة على تَبنّي سياسة تحفيز الإنتاج فوق مستواه الطبيعي باللجوء إلى التضخم المفاجئ. ومن هنا، لا يمكن معالجة مصداقية السياسة النقدية وعلاقتها باستقلالية البنك المركزي من دون دراسة الروابط المعقدة بين البنك المركزي والحكومة من جهة، وكذلك الروابط بين البنك المركزي والقطاع الخاص من ناحية أخرى.
تقليدياً، اعتبرت الأدبيات الاقتصادية أن هناك ثلاثة مكونات لاستقلالية السلطات النقدية:
– الاستقلالية “العضوية” المتعلقة بشروط تعيين حاكم البنك المركزي ومجلس إدارته.
– الاستقلالية “الوظيفية” التي تشير إلى المشاركة الفعالة للبنك المركزي في تحديد الأهداف واختيار الأدوات وتطبيق السياسة النقدية.
– الاستقلالية “المالية” التي تجعل من الممكن تقييم مجال المناورة المُتاح للبنك المركزي من وجهة نظر الموارد اللازمة لعمله.
وبالتالي، إنّ بعض مكونات استقلالية السلطة النقدية ناتجة عن مجموعة من الأحكام القانونية (الاستقلالية بحكم القانون، قانون النقد والتسليف في لبنان)؛ والبعض الآخر ينبع من الممارسة والقدرة على تطبيق صلاحيات البنك المركزي التي تحدد الاستقلالية العملية (الاستقلالية الفعلية)… ولقد أشارت هذه الأعمال إلى “استبيان بودارت” [1990] الذي يتضمن 15 سؤالاً تتعلق بالعلاقات بين السلطة التنفيذية والبنك المركزي فيما يتعلق بتعيين الحاكم ونوابه، ومدة ولايته… الجواب يحصل على قيمة “صفر” عندما “يشير إلى غياب الاستقلالية عن البنك المركزي ويتلقى قيمة “1” عندما تتأكد الاستقلالية.
من ناحية أخرى، يفضّل كل من V. Grilli و D.Masciandaro و G و Tabellini [1991] الفصل الواضح بين المكونات المختلفة لاستقلالية المصرف المركزي، مع إعطاء وزن أكبر قليلاً لمعايير الاستقلالية الوظيفية.
الجيل الثاني من أعمال أ. Cukierman، S .. Webb and B. Neyapti [1992] أدركَ استقلالية البنك المركزي بما يتجاوز المعايير الرسمية الوحيدة. بالنسبة لهؤلاء الاقتصاديين، إنّ الوضع القانوني للبنك المركزي هو عنصر واحد فقط من بين عدة عناصر تحدد استقلاليته الفعالة، وحتى عندما تكون النصوص شديدة الوضوح يمكن أن يكون الواقع مختلفاً تماماً عما يتوقعونه.
وفي الوقت نفسه، إن بعض المقترحات لحلول بديلة لمشكلة عدم تناسق الوقت incoherence temporelle، مثل نهج البنك المركزي المحافظ ونهج العقود الأمثل، يسلّط الضوء على التمييز بين استقلالية الأهداف واستقلالية الأدوات. ففي نموذج روجوف (1985)، يتمتع البنك المركزي بنوعين من الاستقلالية: فهو يحدد الأهداف ويتحكم في أدوات السياسة النقدية. وإذا أثار روغوف [1985] معضلة المصداقية والمرونة في السياسة النقدية، فإنّ والش [1995] يسعى إلى حلها من خلال قصر استقلالية حاكم البنك المركزي ودورها في الاستقلالية الفعلية. في هذا النهج، يتم التركيز على مهام وحوافز حاكم البنك المركزي لإكمال المهام الموكلة إليه. وبالتالي، فإنّ الاستنتاج الأساسي لهذا التحليل هو أنه يجب أن يتمتع البنك المركزي باستقلالية فعالة، من دون تحديد أهدافه بشكل مستقل.
بطبيعة الحال، تصبح مشكلة المصداقية النقدية وتحديات الاستقرار النقدي أكثر صعوبة عندما يكون التضخم مزمناً، ويفضّل لجوء العملاء الاقتصاديين إلى استبدال العملة الوطنية بالعملة الأجنبية للهروب من مشاكل عدم الاستقرار وتقلّب القدرة الشرائية و”التضخم المستورد”، اي اللجوء الى الدولرة…
البحث عن المصداقية من خلال المساعدات الخارجية:
قد تستخدم البلدان المشاركة في برامج الحد من التضخم برامج إنفاذ خارجية (مثل صندوق النقد الدولي)، من خلال التزامها بتضخم منخفض من أجل تحسين مصداقيتها وفعالية برامجها واستعادة ثقة الجمهور. يلاحظ أن هذه البرامج تقدم أيضا مساعدة مشروطة لتحقيق أهداف محددة لسياسة الاقتصاد الكلّي (مثل الإصلاحات الاقتصادية التي أوصى بها صندوق النقد الدولي في لبنان).
ومع ذلك، قد تقف العديد من الصعوبات في طريق هذا البرنامج، ولا سيما:
– الإحجام الذي قد يشعر به الجمهور في ما يتعلق بتطبيق برنامج خارجي، كإشارة على التزام صانعي السياسات الاقتصادية بخفض التضخم (مثل التردّد الذي أظهَره لبنان في ما يتعلق بتطبيق الإصلاحات التي التزمت بها الحكومة اللبنانية منذ مؤتمر باريس -2 للدول المانحة عام 2002).
مشروطية المساعدات الخارجية سيف ذو حدين: إذا اعتبرت درجة المشروطية المرتبطة بالمساعدات الخارجية مفرطة، فإنّ عدم اليقين بشأن توافر الدعم الخارجي قد يزيد من تدهور المصداقية ويؤدي إلى تأخير في الاستقرار.
ونتيجة لذلك، ترتبط الفعالية والحاجة إلى سياسة استقرار بالتحفيز على الترشيد المالي المُستدام وضبط اللجوء الى التمويل النقدي للعجز المالي… وقد تفتقر الإجراءات المالية غير المستدامة (مثل ضبط إنفاق القطاع العام) إلى المصداقية وتخاطر بإثارة التوقعات بالتوسع المالي المستقبلي والتحويل النقدي الذي يمكن أن يطلق عملية تضخمية جديدة.. إلا انّ بناء المصداقية لا يتحقق بغفلة من الزمن، بل يحتاج سنوات وخطوات عديدة تثبت استعادة الثقة وتؤكدها، لا سيما بعد تجربة افتقادها وازدياد الحاجة لطمأنة الجمهور.