هنالك اليوم خوف عالمي واضح من التضخم الذي عاد ليأكل موازنات الأسر والدول وخاصة دخل الفقراء. كان الظن سائدا اننا انتهينا عالميا من مرض التضخم الذي كان داء العصر في عقود القرن الماضي واستمر مع بداية القرن الحالي. كانت أميركا اللاتينية وبعض دول آسيا مضرب مثل في الأجواء التضخمية المدمرة وعانت شعوبها كثيرا. بعدها انخفض التضخم تدريجيا ولم يعد مقلقا بسبب ما سمي بالاقتصاد الجديد الذي نقل الانتاج من الطرق التقليدية الى التكنولوجيا المتطورة أي سلع حديثة كثيرة منتجة بأسعار أقل. ظن العالم أجمع ان مسيرة العرض التقنية ستبقى كما هي الى ما لا نهاية، لكن هذا لم يحدث فتعثر لأسباب تجري دراستها لمنع التكرار.
اذا نظرنا الى احصائيات صندوق النقد الدولي بشأن مؤشر أسعار الاستهلاك في الدول الصناعية، نرى أنها منخفضة حديثا أي بمعدل 0,7% في 2020 وتقديرات 2,8% و 2,3% في السنتين التاليتين. لكن الوقائع الجديدة تخالف ذلك حيث ارتفع مؤشر التضخم في الولايات المتحدة بين كانون الثاني 2021 وكانون الثاني الماضي الى 7,5% وهذا مقلق أميريكيا وعالميا بسبب الترابط القوي بين الاقتصادات الوطنية والاقليمية. أميركا الاقتصاد الواسع والمنافسة النشطة يصعب منطقيا أن يدخلها التضخم كما يحصل بالاقتصادات ذات الصفات المعاكسة.
أما في الدول النامية والناشئة فتشير أرقام صندوق النقد الى أن مؤشر أسعار الاستهلاك بلغ 5,1% في 2020 وتقديرات وصلت الى 5,5% و 4,9% في السنتين التاليتين. هذه معدلات مقبولة للمجموعة التي عانت في فترات سابقة من معدلات أعلى بكثير بسبب سؤ نضوج المؤسسات والقوانين داخلها كما بسبب المشاكل السياسية الحادة التي واجهتها. مشكلة التضخم تعود اليوم الى الاقتصاد العالمي الذي يعاني من مجموعة أزمات خطيرة لم تعالج بعد بينها الكورونا والفقر والبطالة وتوسع فجوة الدخل والثروة وغيرها. أي دراسة جدية لمشكلة التضخم يجب أن تنظر الى عوامل العرض والطلب والمعالجات الممكنة لتقييم حجم المشكلة الحالية وخطورتها وامكانية مواجهتها أو معالجتها؟
أولا: في العرض حيث لا يمكن محاربة التضخم اذا لم يزداد الانتاج وهذا متعثر أو صعب لأسباب متعددة منها غياب السياسات المحفزة للانتاج والمخفضة للتكلفة. أيضا الأوضاع في أوكرانيا مقلقة ومن الممكن أن تؤثر كثيرا على الأجواء الاقتصادية العالمية كما على التبادلين التجاري والمالي العالميين. مشكلة أوكرانيا توتر الأجواء العالمية وتساهم في رفع أسعار النفط الى مستويات جديدة أي رفع تكلفة الانتاج والنقل والسياحة وغيرها. هنالك عودة الى الأزمات النفطية السابقة مع فارق كبير وهو أن المنطقة العربية خاصة منطقة الخليج لا علاقة لها بها.
مشكلة سلاسل التوريد كبيرة وتعرقل زيادة انتاج أهم السلع منها السيارات. هنالك حاجة كبيرة لهذه الالكترونيات التي تساهم في انتاج السلع الكبيرة. معظمها يأتي من أسيا والصين تحديدا وبالتالي هنالك انتظار كبير لوصولها الى المرافئ الغربية وخاصة في أميركا وتحديدا في لوس أنجلس. تجنبا لمشكلة مستقبلية مماثلة، يقول الكاتب «باري لين» ان على الدول الغربية وخاصة الولايات التحدة أن تطبق «قاعدة الربع» أي أن لا يكون هنالك أكثر من ربع السلع الأساسية منتجة في مكان واحد أو تأتي الى مرفق واحد. يقول لين أن على الدول أن تنوع مصادر توريدها بحيث لا تكون مرتبطة بمصادر واحدة والمقصود هنا المصادر الأسيوية تحديدا.
هنالك لا شك اليوم سوء توازن بين الوظائف والكفاءات وهذا يعود الى التغيير الكبير الحاصل في الاقتصاد العالمي كما الى عدم تجاوب الجامعات ومعاهد التدريس مع الحاجات الجديدة. لا شك أن هنالك تقصير كبير في ما يخص جودة التعليم المهني والتقني الذي يحتاج العالم اليه كثيرا خاصة بعد الأزمات. لن يحصل النمو القوي مجددا من دون تغيير كبير في التقنيات والعلوم والخبرات المعتمدة في الانتاج.
ثانيا: في الطلب حيث لا شك بعد انحدار موجة الكورونا يرتفع الطلب عالميا على السلع والخدمات أي أن هنالك نمو ايجابي حالي ومتوقع مستقبلي. تبعا لصندوق النقد وفي الدول الصناعية، يتوقع أن يصل النمو الى 4,5% هذه السنة بعد ارتفاع قدره 5,2% السنة الماضية. في الدول النامية والناشئة يتوقع أن يصل النمو الى 5,1% هذه السنة بعد ارتفاع قدره 6,4% السنة الماضية. تنعكس هذه النسب الايجابية على الطلب وبالتالي تدفع بالأسعار صعودا. هنالك حركة استهلاكية متصاعدة نراها خاصة في الدول الغربية بعد معاناة المواطن لسنتين أو أكثر من الاغلاق القسري نتيجة الكورونا. التجاوب الاستثماري ما زال أقل بسبب القلق والتمويل مما يساهم أيضا في الضغط على الأسعار.
خلال الاغلاق ولمنع الاقتصادات من السقوط، قامت المصارف المركزية بضخ النقد في الأسواق وهذا كان عاملا مهما في دفع الأسعار صعودا. سبب ذلك في نفس الوقت ارتفاع التوقعات التضخمية مما ساهم في دفع الأسعار أكثر نحو الارتفاع. محاربة التوقعات مهمة جدا ولكنها صعبة اذ ان اقناع المواطنين بالعكس ليس بالأمر السهل وهذا يعرقل أي سياسات مكافحة للتضخم.
ثالثا: كيف يواجه العالم اليوم التضخم وخاصة التوقعات الخطرة؟ أهم سياسة بدأت المصارف المركزية اعتمادها هي رفع الفوائد التي ستكون فاعلة حتما لكن يلزمها بعض الوقت اذ لا يمكن رفعها بسرعة وضرب النمو الاقتصادي. تقود الولايات المتحدة هذه السياسة والتي ستنعكس على كل الدول التي تربط نقدها بالدولار بينها لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي. هنالك سياسات أخرى مكملة بينها بيع السندات في الأسواق من قبل المصارف المركزية ووزارات المال والتي تهدف الى سحب النقد من الأسواق وبالتالي تخفيف الضغط على الطلب.
يسود التشاؤم سكان العالم بسبب الأوضاع الأوكرانية واستمرار الكورونا كما بسبب كافة الأمور المعيشية المتعثرة حتى في أعرق الاقتصادات. هنالك مشاكل جدية أساسية أهما ضعف ثقة المواطن بالحكومات، فكيف يتجاوب مع اقتراحاتها وسياساتها؟ هنالك ضعف ثقة بين مواطني العالم ليس فقط بين الأغنياء والفقراء بل حتى داخل المجموعات نفسها. في ظل هذه الأوضاع المادية والنفسية المتشنجة كيف تنجح الساسات في مكافحة التضخم والعودة الى أجواء اقتصادية ومالية سليمة؟
مشكلة التضخم انها تدخل ببطئ الى الاقتصادات وتنتشر في كل العروق والفروع مما يصعب عملية اخراجها. المهم أن تضع الحكومات والمصارف المركزية حواجز أمام امتداد المرض التضخمي بحيث تكون مواجهته أسهل. القضاء على التضخم صعب لأنه مرتبط بالسياسات والمعنويات والتوقعات وهذه أمور تعالج بهدوء.