IMLebanon

التضخُّم والذكاء الاصطناعي

 

 

حتى قبل الحرب الأوكرانية، كانت هنالك وجهات نظر مختلفة بشأن نسب التضخم وامكانية استمراريته حتى سنة 2024 بل خاصة في كيفية القضاء عليه دون التسبب بركود كبير وبطالة موجعة.  حتى المصارف المركزية الأساسية لم تأخذ الخطر التضخمي جديا، فتأخرت كثيرا في البدء برفع الفوائد لمحاربته.  مع الحرب الأوكرانية وحتما مع حرب غزة أصبحت المشكلة التضخمية معقدة أكثر بتأثيراتها ومصادرها كما محاولات المواجهة أصبحت مكلفة أكثر.  هنالك من قارن تضخم اليوم بما حصل في السبعينات، وبالتالي كان مطمئنا الى سهولة الفوز عليه.  في الواقع تضخم اليوم بالرغم من مساوئه الكبيرة أهون من تضخم السبعينات لسبب رئيسي وهو أن توقعات المواطنين التضخمية الحالية أقل بكثير من السابق. لذا بالرغم من نسب تضخمية حالية مرتفعة، لم ترتفع نسبة البطالة في معظم الدول مما يشير الى أن مشكلة التضخم ليست خطرة كما كانت في السبعينات.

مقارنات أخرى أقرب الى الحقيقة وهي تضخم اليوم بالمقارنة مع ما حصل زمن الحرب الكورية التي أنتجت تضخما قويا لم يدم طويلا.  في منتصف 2022، أظهرت دراسات السوق أن التضخم لن يطول بسبب انخفاض أسعار المحروقات كما انخفاض أسعار السيارات المستعملة مما يعني أن انتاج الجديد عاد أيضا ليأخذ مكانه في سلة المواطن وهذا صحي جدا.  كما أن تعريفات الايجار الجديدة انخفضت عالميا مما يشير الى عودة الصحة الى القطاع العقاري المهم جدا لكل اقتصاد.  تؤدي هذه العوامل مجتمعة الى الأمل في ضرب التضخم دون تكلفة كبيرة على الاقتصاد وخاصة على معيشة المواطن وفرص العمل. هذه العوامل سهلت مهمة المصارف المركزية من ناحية دفعها لرفع الفوائد لتخفيف التضخم دون الخوف من احداث زلازل داخلية اجتماعية.

 

من الدول التي عانت من التضخم وسقوط النقد هي تركيا التي جددت مؤخرا للرئيس أردوغان.  عندما أقفلت كل طرق الانقاذ الاقتصادي أمام الرئيس التركي، أتى بالسيدة «اركان» لتقود السياسة النقدية أي لتصبح حاكمة المصرف المركزي.  في تركيا، استقلالية المصرف المركزي محدودة أي تتأثر سياساته بما يقرره رئيس الدولة وهذا طبعا غير مرغوب به.  من الضروري تثبيت استقلالية المصرف المركزي كي لا تتأثر سياساته بما يرغب به السياسيون.  تشير كافة الدراسات الحديثة الى أن المؤسسات والشركات التي تعاني كثيرا وجديا أو تتعثر تأتي بالسيدات للقيادة وثم الانقاذ. سينظر العالم بدقة الى ما ستفعله السيدة Hafize Gaye Erkan خلال قيادتها للمصرف المركزي التركي.

 

يبلغ حجم الناتج المحلي التركي ألف مليار دولار وهو الاقتصاد التاسع عشر دوليا.  سيراقب العالم بدقة ما ستفعله السيدة «اركان» في علاقة الدولة مع صندوق النقد الدولي التي تحتاج اليه للمساعدة في القضاء على التضخم وانقاذ الليرة وتصحيح الاقتصاد.  تعاني تركيا أيضا من نقص في الاحتياطي النقدي استعمل للدفاع عن سعر صرف الليرة.  قال الرئيس اردوغان أن أفضل سياسة لمحاربة التضخم هي تخفيض الفوائد وليس رفعها مما يعيدنا الى نظريات الاقتصادي «ارفينغ فيشر».  قال اردوغان أن تخفيض الفوائد يشجع على الاستثمار وبالتالي يحدث نموا يرفع العرض ويقوي النقد وبالتالي يقضي على التضخم.

من الأفكار الجديدة تلك التي تسوق للحريات كوسيلة لمحاربة التضخم.  تسوق لرفع القيود عن تصرفات المواطنين والشركات مما يسمح بزيادة الانتاج وبالتالي تخفيض التضخم.  تطوير الحريات يسمح للفرد باعطاء أفضل ما عنده، لكن في نفس الوقت يمكن أن يؤدي الى بعض التصرفات المرفوضة في المجتمعات. لا شك أننا نريد أسواقا حرة بعيدة عن الاحتكارات التي تضرب حقوق المواطن وتؤدي الى رفع الأسعار.  نريد أسواقا حرة تسمح للشركات الصغيرة بالنهوض ولا تكون فريسة للشركات الكبيرة التي تتوسع عبر استيعابها والغائها من الوجود.  في القطاع التكنولوجي المبني على الابداع والتجدد، هنالك شركات كبيرة تسيطر على كل ما يجري في الأسواق.  هذا موجود اليوم في أسواق الذكاء الاصطناعي الذي يدهش العالم ويخيفه في نفس الوقت.  تظهر الدراسات على مدى السنوات، أنه عندما تسيطر أقلية على أسواق ما، يحدث قمع للحريات الاقتصادية وحقوق المواطن.  تعزيز الحريات الاقتصادية هي احدى الوسائل الفاعلة لضرب التضخم.

للقضاء على التضخم هنالك أيضا سياسات ترفع الانتاجية مستفيدة من تطور التكنولوجيا والذكاء بكافة مصادره.  في نفس الوقت يجب تقييد الذكاء الاصطناعي حتى لا يأخذ مكان الانسان في العديد من المهام الأساسية في المجتمع.  المطلوب تشريعات تحمي حقوق المواطن وخصوصياته حتى لا يصبح مكشوفا. لا يمكن ترك مستقبل المجتمع في يد شركات كبرى يهمها نفسها وتقضي على الحريات وبالتالي تدخل التضخم الى شرايين المجتمعات.

ترك المجتمعات لقرارات الشركات الكبرى يضرب حقوق المواطن. من السياسات الحديثة هي أن الشركات الكبرى تنتج ما يهم أو يريد الميسورون لزيادة الأرباح وتقليل الانتاج.  تكون عندها الخيارات أقل بكثير أمام المستهلك العادي وخاصة الفقير.  تتوجه الشركات الكبيرة اليوم الى من يستطيع الانفاق أكثر. لا يهمها مجموع الانفاق، بل انفاق المستهلك الواحد مما يعني تكلفة انتاج أقل وأرباح أكثر.  في سنة 2017، كان هنالك 36 نوع سيارة سعر الواحدة أقل من 25 ألف دولار تشكل 13% من المبيعات. في سنة 2022، كان هنالك 10 أنواع سيارات سعر الواحدة منها أقل من 25 ألف دولار وشكلت فقط 4% من المبيعات.  هذا يعني أن شركات السيارات تتجنب انتاج السيارات الرخيصة لتكلفتها العالية مقارنة بسعر مبيعها. تستفيد الشركات المصنعة أكثر بكثير من انتاج اعداد سيارات أقل باهظة الثمن لمجموعة محددة من الزبائن. ارباحها تكون أعلى بكثير. هكذا يتوجه العالم اليوم لصالح الأغنياء، أي ضد الحريات العامة مما يسبب التضخم ويوسع فجوات الثروة والدخل.