IMLebanon

العمل غير النظامي: الدولة تخالف قوانينها

39.5% من أساتذة التعليم الرسمي ما قبل الجامعي هم أساتذة متعاقدون، وفق ما تُشير أرقام النشرة الإحصائية الصادرة عن المركز التربوي للبحوث والإنماء للعام الدراسي 2015/2016. حالياً، يبلغ عدد المياومين لدى «مؤسسة كهرباء لبنان» نحو 1390 عاملاً. يقُدّر عدد الموظفين المتعاقدين مع وزارات الدولة وأسلاكها والبلديات في الوقت الراهن بالآلاف… هذه أمثلة فقط عن صيغ التوظيف الملتوية، التي اعتمدت في الدولة بعد قرار وقف التوظيف المتخذ في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وليس هناك جدل حول حقيقة أن القوى السياسية المسيطرة تسابقت على شراء الولاءات من جماعاتها عبر تحويل الدولة إلى أداة «توزيع» ضخمة، بغرض امتصاص جزء من البطالة وضبط التوترات الاجتماعية وإطفاء الحالات النافرة منها

يُعدّ المياومون والمتعاقدون في الدولة، إلى جانب الكثير من العاملين في القطاع الخاص والعاملين لحسابهم، الظاهرة الأكثر ظلماً التي أنتجها النموذج الاقتصادي الريعي القائم في لبنان.

إذ تتنامى أشكال وصيغ العمل غير النظامي ويتم حرمان أكثرية العمال من الحقوق القانونية البسيطة، التي ترسيها قوانين العمل والضمان الاجتماعي وبدل النقل اليومي والعقود والموجبات ونظام الموظفين وسوى ذلك من قوانين وأنظمة مرعية الإجراء.

عام 2010، قدّر البنك الدولي مجموع العاملين غير النظاميين في لبنان بنحو 56% من مجموع القوى العاملة. هذه التقديرات سبقت اللجوء السوري، الذي رفع حصة العمالة غير النظامية بشكل كبير، وأوجد المزيد من الأشكال والصيغ لاستغلال العمال وحرمانهم من الحد الأدنى للأجور والحماية الاجتماعية على أشكالها. في عام 2009، قدّرت منظمة العمل الدولية نسبة العمالة غير النظامية في صفوف القوى العاملة في الزراعة بنحو 92.5%، وفي مجال البناء بنحو 72%، وفي قطاع النقل 58% وفي قطاع التجارة 39% وفي قطاع الخدمات 15%. هذه الأرقام تضخمت وزادت حكماً بعد مضي نحو 8 سنوات.

يُعرّف العمال غير النظاميين بأنهم الذين لا يخضعون في علاقة استخدامهم للتشريع الوطني المتعلّق بالعمل أو الضريبة على الدخل. وهم بالتالي لا يخضعون للحد الأدنى للأجور ولا يتمتعون بالحماية الاجتماعية أو بالحق في بعض إعانات الاستخدام (الإخطار المُسبق بالطرد أو تعويضات الصرف أو الإجازة السنوية أو الإجازة المرضية المدفوعة الأجر أو ما إلى ذلك)، ويحصل هذا الحرمان عبر آليات مختلفة، منها عدم التصريح عن المؤسسة كلّها للتهرب من موجبات الضريبة والاشتراكات لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أو عدم التصريح عن العمّال فيها أو بعضهم، أو عبر استخدام عمال في وظائف تسمح بالتحايل على حقوقهم باعتبارهم يقدمون خدمات مقاولة على الساعة أو باليوم أو موسمياً (…).

إلا أن هناك فئات من العمالة لا ينطبق عليها صفة العمال بأجر، ولكنها تقع في موقع العمالة غير النظامية، ومنها فئات العاملين لحسابهم في مروحة واسعة من الخدمات المتدنية الإنتاجية، كالعاملين في مجالات تصليح السيارات والبائعين المتجولين وسائقي السيارات العمومية وغيرهم.

الدولة مسؤولة

تسعى الدولة حالياً الى إفلاس صندوق الضمان الاجتماعي عبر «القانون»، وذلك عبر دسّ المادتين 54 و68، المتعلّقتين بإلغاء موجب استحصال المؤسسات على براءة الذمة من الضمان الاجتماعي، علماً بأنها (البراءة) تمثّل الأداة الوحيدة التي يستعملها الصندوق لضمان انتظام المؤسسات بالتصريح عن أجرائها وتسديد الاشتراكات. إضافة الى المفاعيل السلبية لهاتين المادتين على تدفقات الصندوق المالية، فإن إلغاء موجب براءة الذمة سيُشجع حكماً أصحاب المؤسسات على عدم التصريح عن موظفيهم، الأمر الذي سيؤدي الى زيادة عدد العمال غير النظاميين الذين سيُحرمون من حقهم في الاستفادة من الضمان الصحي الاجتماعي وتعويضات نهاية الخدمة والتعويضات العائلية.

لا يُعدّ هذا الإجراء «غريباً» على سياسات الدولة، التي أمعنت منذ التسعينيات في إرساء واقع يزيد من بؤس العمال وينتهك حقوقهم. فقد سبق ذلك سلسلة واسعة من الإجراءات، التي قامت بها الدولة، وساهمت في «أكل» حقوق العمال وحرمانهم من الضمانات. مثلاً، جمّدت الدولة الأجور لمدة 12 عاماً وذلك منذ عام 1996 حتى عام 2008، الأمر الذي أدّى حينها الى تآكل الأجور وتهاويها من حصة الاقتصاد من 35% إلى 20%. في عام 2008، أقرت ما يُسمى «زيادة مقطوعة» حددت بـ 200 ألف ليرة. هذا الأمر أدّى الى ضرب «الأجر الوسطي». ولم يُسوَّ هذا الواقع إلا عام 2012، مع تسلّم الوزير السابق شربل نحاس وزارة العمل، الذي أعاد الانتظام عبر تصحيح الأجور بنسبة مئوية لا بزيادة مقطوعة. إلا أن نحاس فشل في ضم بدل النقل الى الأجر، وصدر قانون «يشرعن» قرصنة حقوق العمال بكامل أجرهم، وأقر القانون وجود بدل نقل يومي لا يتقاضاه أكثر من نصف أجراء القطاع الخاص وفئات المياومين على اختلافهم.

بمعنى آخر، تقوم الدولة منذ التسعينيات بتدمير المنظومة التي ترعى حقوق العمال، وعوضاً عن أن تتخذ دور الحريص على هذه الحقوق للعمال، ساهمت في تضخيم أعداد العمال غير النظاميين، وما اعتماد صيغة التعاقد في التوظيف في الإدارات والمؤسسات العامة إلا دليل على ذلك.

شراء الولاءات السياسية

يقول الأستاذ في الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الدكتور نجيب عيسى إن العمال غير النظاميين ينقسمون الى قسمين، الأول: العمال غير النظاميين العاملون في القطاع العام، «وهؤلاء أسباب ارتفاعهم واضحة، ذلك أن الدولة قررت منذ التسعينيات وقف توظيفهم، إلا أن الزعماء وأصحاب النفوذ قرروا الالتفاف على القانون عبر اعتماد صيغة التعاقد كنوع من شراء الولاءات السياسية، على قاعدة أن كل زعيم يريد توظيف جماعته». أما القسم الثاني، فهو يضم العمال غير النظاميين في القطاع الخاص، و»يشمل مروحة واسعة من العاملين لحسابهم الخاص، وغالباً ما تكون إنتاجية هؤلاء متدنية كثيراً وغير مشمولين في الضمان الصحي ومحرومين من الحماية الاجتماعية وغيرها». يقول عيسى إن القسم الآخر المختلف عن هذين القسمين يشمل الأجراء الذين يعملون في مؤسسات لا تُصرّح عنهم، محملاً هنا المسؤولية للدولة أيضاً التي لا تكتفي بالمساهمة في ازدياد عدد الموظفين غير النظاميين في القطاع العام، بل تغض النظر عن الأجراء غير النظاميين الآخرين. ويُشير عيسى هنا الى مهمات كل من وزارتَي العمل والمالية اللتين تتحملان مسؤولية التفتيش والمراقبة.

العمالة السورية: مواجهة أصحاب العمل لا العاملين

يقول العارفون إن أرقام العمال غير النظاميين تضاعفت مع اللجوء السوري ومع استغلالهم من أصحاب العمل وسعيهم الى تحقيق الأرباح عبر استبدال اليد العاملة بأجور أدنى. هؤلاء يُثيرون مسألة ضرورة إلزام أصحاب العمل بحقوق العمال مهما كانت جنسيتهم، وبالتالي، استبدال الخطاب العنصري الموجود ضد العمال السوريين بوصفهم منافسين للعمال المحليين بخطاب يدعو الى فرض تطبيق القوانين التي تحفظ حقوق العمال وتسري على الجميع. هذا الأمر يعني أن من يريد مواجهة الواقع الحالي، عليه أن يقف ضد أصحاب العمل لا ضدّ العمال السوريين.