أصبح الرقم في لبنان وجهة نظر، ليس فقط بالنسبة للسياسيين بل أيضاً بالنسبة لقيادات القطاع الخاص، وللأسف أيضاً لبعض الباحثين الذين يأخذون هذه الأرقام «الرسمية» الخاطئة ويبنون عليها أبحاثهم واستنتاجاتهم.
فلتت الأمور في هذا مجال الارقام والاحصاءات إلى حد أنه أصبح عدة أرقام «رسمية» لقيمة أي متغير تختلف عن بعضها اختلافات كبيرة، حسب ميول المتحدث السياسية، قد تصل إلى 3 أضعاف أو أكثر. المشكلة الأكبر هي أنه ليس هناك حسيب أو رقيب ما يشجع هؤلاء الرسميين على التمادي في فبركة الأرقام المناسبة لميولهم السياسية إلى حد يندر وجوده في العالم.
مثل واضح على ما نقول هي الأرقام المتداولة حول نسبة البطالة. هذه النسبة، كما هو معروف، هي ذات أهمية كبيرة في وضع السياسة الإقتصادية في معظم دول العالم ولذا تقوم هذه الدول بمسح للبطالة كل شهر (أو على الأكثر كل ثلاثة أشهر) لتحديد أي تغير، ولو صغير جداً، في مستوى البطالة تتم على أساسه دوزنة النمو الإقتصادي من خلال تغييرات في السياسة المالية والنقدية.
أما في لبنان فآخر مسح للقوى العاملة، بما في ذلك البطالة، حصل سنة 2009، قامت به إدارة الإحصاء المركزي بمساعدة من اليونيسيف. هذه الدراسة أعطت نسبة بطالة 6 بالمئة، ولكن الأرقام ذات الصلة المذكورة في الدراسة نفسها تعطي نسبة بطالة 9 في المئة.
المنظمات الدولية تتبع عادة الإحصاءات الرسمية ولذا، فمنظمة العمل الدولية، المسؤولة الأولى عن هذه الأرقام دولياً، تعطي نسبة بطالة في لبنان للسنين الأخيرة ما بين 6 و7 بالمئة وتتبعها في ذلك المنظمات الدولية الأخرى بما في ذلك البنك الدولي. غير أن هذا الأخير قام بدراستين مؤخراً حدد في الأولى نسبة البطالة في لبنان سنة 2013 بـ 11 بالمئة.
الدراسة الثانية، بعنوان «فرص عمل لشمال لبنان» نُفذت مؤخراً (2017) تعطي رقم 9 بالمئة لنسبة البطالة في هذه المنطقة الأقل نمواً في لبنان، والمليئة باللاجئين السوريين. وهكذا فالدراسات المتقطعة من قبل إدارة الإحصاء المركزي والبنك الدولي توحي بأن نسبة البطالة في لبنان حتى اليوم تتراوح ما بين 9 و 11 بالمئة رغم وجود اللاجئين السوريين.
ماذا عن الأرقام المسيّسة؟
في سنة 2015 أعلن وزيرالعمل في حينه أن نسبة البطالة كانت، بالتحديد، ما بين 22 و23 بالمئة سنة 2014، ولكنها بلغت 32 بالمئة في السنة التالية. ولكن النشاط الحثيث من قبل وزارة العمل خفضها إلى 25 بالمئة في آذار سنة 2016. كل هذا مع العلم أن لا مسح للبطالة حصل خلال تلك السنوات.
ما زاد الطين بلة هو تصريح الوزير نفسه في نيسان، 2016، بأن ثمّة مليون انسان عاطل عن العمل بين اللبنانيين. وبما أن مجموع القوى العاملة اللبنانية لا يتجاوز الـ 1،5 مليون نسمة فإن هذا يعني أن مستوى البطالة ارتفع خلال أسابيع إلى 66 بالمئة.
(يظهر أن معالي الوزير احتسب البطالة 25 بالمئة من مجموع السكان وليس من مجموع القوى العاملة كما يجب). من الطريف ذكره أن إدارة الإحصاء المركزي نشرت على موقعها، بالخط العريض، مباشرة بعد التصريح، بأن مستوى البطالة في لبنان هو 10 بالمئة!
طبعاً، الهدف من الأرقام المبالغ فيها هو إظهار الضرر الإقتصادي الناتج عن هجرة السوريين. وبما أن قسماً كبيراً من اللبنانيين يعتقد، لربما نتيجة لتصريحات المسؤولين أنفسهم، أن السبب الأكبر، ولربما الوحيد، للإنكماش الإقتصادي الذي تمر به البلاد هو اللاجئين السوريين، فهذه الأرقام المضخمة للبطالة أصبحت تجد قبولاً واسعاً حتى بين الباحثين، ما أعطى دفعاً إضافياً لها.
في السياق نفسه، صرح وزير الإقتصاد مؤخراُ (في 22 تشرين االثاني 2017) أن «الناتج المحلي اللبناني انخفض من 8 بالمئة عام 2011 إلى 1 بالمئة عام 2017،» بحسب البنك الدولي، وسبب ذلك، بالمقام الأول، ضغط اللاجئين السوريين على اليد العاملة اللبنانية إذ «أصبحت نسبة البطالة حسب الإحصاءات 30 بالمئة،» بحسب الوزير، كذلك الضغط على استهلاك الكهرباء والبنى التحتية والتعليم وغيرها.
ولكن إحصاءات البنك الدولي، المتطابقة طبعاً مع إحصاءات البنك المركزي اللبناني، تدل على العكس تماماً. ففي سنة 2011 كان نمو الناتج المحلي الخام أقل من 1 بالمئة ولكنه ارتفع لسنة 2017 إلى 2 بالمئة (2،7 بالمئة كان تقدير البنك الدولي عندما تكلم الوزير).
بمعنى آخر فإن نمو الناتج المحلي اللبناني لم ينخفض من 8 بالمئة سنة 2011 إلى 1 بالمئة سنة 2017 بل بالعكس تضاعف ثلاث مرات خلال تلك الحقبة من أقل من 1 بالمئة إلى 2،7 بالمئة سنة 2017 عندما تكلم الوزير. فإذا استعملنا المنطق نفسه فهل يعني هذا الإرتفاع أن السبب في هذا النشاط الإقتصادي المميز هو ازدياد عدد اللاجئين السوريين خلال تلك المدة؟
حقيقة الأمر هو أن انخفاض النمو سنة 2011 لم يكن سببه اللاجئين السوريين، إذ أن اللجوء بدأ فعلا سنة 2012، بل انسداد المخرج الرئيسي للبضائع اللبنانية وحالة عدم الأستقرار في الجوار ومسائل أخرى.
في كتابي «لبنان: مشكلات إنمائية وإنسانية بالأرقام،» حيث ذكرت بعض ما تقدم، حاولت أن أصحّح الأرقام قدر الإمكان قبل تحليلها في مجالات السكان والهجرة والبطالة والصحة والتعليم وغيرها ولكنه كان من الواضح أن لبنان، البلد الوحيد في العالم الذي لم يقم بتعداد سكانه منذ الحرب العالمية الثانية، يتخلف عن معظم الدول، حتى المتخلفة منها، في مجال الإحصاءات المبنية على مسوحات أسرية (household surveys) والتي تعطي المعلومات الأساسية حول أعداد ومواصفات السكان ومشكلاتهم في شتى المجالات الحياتية وغيرها من المعلومات الضرورية لوضع السياسات الإنمائية والإنسانية الصحيحة.
المطلوب لتصحيح الوضع بسيط جداً ويتلخص بمسألتين، الاولى من اختصاص الدولة والثانية من اختصاس المجتمع المدني. أولاً على الدولة أن تضع برنامجاً إحصائياً ممولاً منها بشكل روتيني لا يشمل فقط الإحصاءات المالية والمصرفية كما هو الحال اليوم، بل سلسلة دورية من المسوحات الأسرية تتضمن، كما في بلدان العالم، معلومات عن السكان وتوزيعهم، والعمل، والبطالة والمستوى المعيشي وغيرها من المعلمومات الضرورية لسياسة إنمائية متوازنة وعقلانية.
الرئيس رفيق الحريري أسس لجنة من خبراء لهذا الغرض لم تكن قد انهت عملها بالكامل عندما استشهد الرئيس، ولكن الحكومات منذ ذلك الحين لم تهتم بمتابعة هذا العمل.
ثانياً على المجتمع المدني أن يراقب تصريحات المسؤولين ويُظهر الأخطاء في المعلومات والإحصاءات التي يقدمونها، كما تفعل بعض البرامج في الغرب كبرنامج «تدقيق الحقائق» (Fact Checker) التابع للواشنطن بوست وغيره.