من فضائل الاستسلام، أن تنفض يدك من وضع ماضٍ إلى الكارثة، ولا قدرة لك، أو لأحد سواك، أن يمنعها… «المشرق» الذي كان عربياً بالاسم، ماض إلى نهايته. منذ أربعة أعوام وهو يتدحرج بين الجثث والدمار والأنكار إلى نهايته… الاستمرار بالتعويل عليه شبيه بمن يريد أن يبني من الغبار عمارة أو بلداً أو وطناً. الغبار لا يبنى عليه ولا يبنى به.
من دلالات المرحلة، أن أحداً قادر على تصور ما، لمشرق ما بعد المذبحة، وأن المعارك الطاعنة في العنف، تزداد رقعتها، وأن العنف فيها مزوّد بسلاح يتدفق، ونفط يتدفق، ومذاهب يتدفق أتباعها إلى قتال بلا هوادة ولا أمل بانتصار… يستحيل أن ينتصر تيار مذهبي على تيارات مذهبية. مستحيل مبرم. النزاع السني الشيعي الذي اندلع في ما بعد البدء الإسلامي بأعوام، لم ينته. يخبو ثم ينبو ويتقد. التاريخ مكتظ بالشواهد.
من دلالات العبور الدائم إلى النهايات الكارثية، أن القضايا التي ازدهرت في أول فتوحات الربيع العربي، (بلا مزدوجين طبعاً، لأنه كان ربيعاً حقيقياً وطبيعياً ومشتهى من زمان) انقرضت. تونس استثناء. قلنا: كأنها ليست من قارة العرب. الحرية هاجرت وهُجّرت. الديموقراطية، «ولا عالبال»، باتت من المنسيات. الكرامة، وطأتها الحرب وحوّلت شعوباً إلى قطعان هاربة، مهجرة، تبحث عن مأوى ورغيف خبز وتمدّ يدها لتتسوّل مساعدات «إنسانية». الحروب التي ازدهرت واستفحلت واحتلت الحضور، فلم يعد سواها موجوداً، قضت على المجتمعات برمتها. مجتمعات، هي في الأساس، كانت في حالة حرب كامنة وخرساء. مجتمعات سهلة، مفتوحة على اختراقات من جنسها العرقي أو الديني أو المذهبي أو العشائري. مجتمعات كانت تبدو سليمة. غَشَّت الجميع بسكونها والتئامها، فيما هي متعادية تربت على التوجس والخوف من الحقد على… فما إن ضعف الاستبداد، حتى استقوت، مدشنة عصر تفجر البيئة وخرابها الإنساني والوطني.
ومن دلالات انعدام الحياة في أي مشروع ذي طابع سياسي أو وطني أو إنساني أو أخلاقي أو حضاري، في حدوده الدنيا، أن تحوّل القتال إلى عنوان جديد، كان الأميركيون قد ابتدعوه، هو «الحرب على الإرهاب». وها هي المنطقة تتجند بضعف مؤكد، لمواجهة إرهاب بقوى مؤكدة، أثبتت جدارتها في القتل والذبح والتدمير وأكدت سعة انتشارها، والأهم، استطاعت أن تؤصل وجودها، بنقاء الانتماء إلى النص والسيرة، وبانتقائية لا جدال فيها… من دلالات انعدام الأفق، أن من بدأ الربيع العربي، حُذف قتلاً وتهجيراً وسجناً، من الأنظمة الاستبدادية، وأنظمة الإرهاب الأكثر استبداداً… من الدلالات كذلك، أن الطموح الأقصى بات الحفاظ على ما تبقى ومن تبقى من الاستبداديين، ليكونوا عوناً على مكافحة التكفير والتطرف، بالعنف الأقصى.
من دلالات انعدام الأفق، أن أكثرية المتابعين، يتوقعون أن تنتهي المآلات لهذه الحقبة الدموية، بخسارة الجميع. فتتولى دول إقليمية ذات بنيان دولتي، ومتحصنة بقوة نفوذها كمصدر لقوى المذاهب، أن تعيد رسم المنطقة، بعدما يتم إفراغها من قضاياها، واعتبارها تجمعات لمكونات غير متصالحة… سيكون «الحل الأمثل» لهذه المنطقة، تعميم نموذج لبنان الفاشل. فالشعوب الفاشلة تستحق دولاً فاشلة وأنظمة فاشلة، وممسوكة من الخارج… هذا هو «الحل الأمثل» وقد يكون النموذج المشتهى. ما دون ذلك، استمرار الحروب وتوالدها، إلى ما لا نهاية، فيصبح المشرق، نسخة عن صومال أو جنوب سودان أو أي بلد، أصيب بطاعون المذهبية.
لم أقرأ لأحد غير هذا. لا يتوقع أحد غير هذا. الخلاف هو حول عدد السنوات التي ستستنزفها الحروب المتناسلة: عشرة أعوام؟ ثلاثون عاما؟ مئة عام؟ من يدري.
ولكن، برغم كل هذا الزمن، الحرب ستنتهي، فماذا نفعل الآن؟ الحرب مستمرة ولا دور لغير أسنة المذاهب ورماح الطوائف وخناجر الأعراق، فما علاقتنا بذلك؟ نحن فقط ضحاياها. ولن ينجو منها إلا ابن حظ لا غير.
بعد أربع سنوات من ولادة الربيع العربي ونجاح وأده، باتت الحياة نادرة والأحلام مستحيلة. من اعتزل حرب «داعش» و«حروب الأنظمة» وغزوات التكفيريين ومنازلات المذاهب وتقاسم الذبح بين أحزاب وتيارات وجيوش ودول إقليمية… بعد كل ذلك، صرنا مجرد موجودين فقط. معتزلة هذا الزمان موجودون كغيرهم من الأشياء والأغراض والمتاع، لا وزن لهم، ولا حتى مثقال غبار… فكم هو مرعب أن تقيم منتظراً الأسوأ الدائم، متوقعاً المأساوي الزاحف، ولا يخيب انتظارك ولا توقعك… كم هو مرعب ألا ترى أمامك غير حاضرك الذي يقتتل فيه الماضي كله؟ كم هو مرعب أن تتساكن الموت ولا تموت وترى غيرك يموت وتتداعى معه ثقافة وأفكار وعبر وتراثات وشعوب؟ كم هو مرعب أن نكون كمعتزلة شهوداً للقتل ثم نعتاد عليه، فتصاب أرواحنا بداء «جلد التمساح»؟ كم هو مرعب أن نظل أحياء، معطوبين في حياتنا، وتهجرنا إنسانيتنا ونتحوّل إلى عدادات للخسارات بلا إحساس؟
هو القتل إذاً… هذا الذي يصيبنا لا ننجو منه إلا بالخروج عليه، لنؤكد أننا ما زلنا على قيد الحياة، وما يؤكد حقيقتنا، هو اتصالنا بالمستقبل، اعتقاداً منا أن لهذه الحروب المجنونة، نهاية ما. فمن يرث هذه الهمجية بعد انتحارها أو اندحارها أو التعب منها؟
ليس أمام النخب المعتزلة التي استقالت واستقلت عن الحقبة هذه، غير أن نخرج من التاريخ المكتظ بالسقوط، إلى تاريخ سيتسنى لها أن تساهم فيه، بعد ما ستؤول إليه خاتمة قرن من السقوط.
للخروج إلى مستقبل آخر، احتمالات العمل الثقافي والنقدي ستكون وافرة. فإلى جانب مسارات المأساة وتطورها وتداعياتها، من المفترض أن تبدأ مسيرة العقل المختلف، العقل النقدي، العقل العاري من تأثيرات الحقبة الانفعالية، على أن تكون مهمة هذا العقل لجماعة المعتزلة، البحث عن أجوبة غير مواربة، أجوبة صادمة، أجوبة متحدية، للبدء بتاريخ عربي جديد، عندما يحين أوانه، وهو أوان آتٍ، بعد اندحار وحوش الدمار، في حرب المئة عام الراهنة.
من قائمة الأسئلة، نختار ما يلي:
لماذا حصل ما حصل؟ من كان يتوقع ما حصل؟ ما مسؤولية النخب الفكرية والسياسية؟ لماذا اغتيلت النهضة ومن اغتالها؟ هل كانت نهضة موائمة لواقعنا؟ هل كانت مناسبة لمجتمع خارج من الاستعمار مثقل بإرث عثماني ومصطدم بجديد استعماري؟ ما كان دور الديكتاتوريات العسكرية؟ كيف نفسر الاستعصاء العربي على التغيير، وعندما حصل التغيير، صرنا الاستثناء بسبب ما آل إليه التغيير من إلغاء وتدمير؟ ما كان دور النفط في هزيمة الحرية والديموقراطية والدولة؟ أي دور لعبه الدين في السياسة؟ أي فاجعة حلت بالمجتمعات عندما تمذهبت السياسة، وبات التكفير قاعدة التعامل؟ يمكن بناء دولة دينية؟ ما الأدلة الواقعية على استحالة ذلك، في العصر القادم؟ لماذا تحولت الأحزاب القومية إلى دونكيشوت مسلّح بأحدث الأسلحة ومدرب على الهزائم وفدائح القمع؟ من اغتال العروبة وطارد الوحدة وطردها، وحال بين الثروة وتوزيعها العادل؟ ما دور القيم السياسية الفاسدة، ودور الطغيان والتبعية في تعميم منظومة الفساد وجعلها قاعدة للتعامل بلا خجل؟ أي تعليم قدمته الجامعات؟ أي اجتهاد قدمته المساجد والمعابد والكنائس؟ ماذا كان دور الغرب؟ لو لم تكن إسرائيل هل كان سيحصل ما حصل؟ الخ…
ورشة التفكير والبحث عن إجابات تتطلب ترهبناً ثقافياً، وتواصلاً بين المفكرين، بوسائل كثيرة، بحثاً عن تاريخ للمستقبل.
فلنصرخ بأعلى عقولنا. فليكن عقلنا صوتنا. ولنسمّ الأشياء بأسمائها بلا مواربة. فلنقل بصراحة أي مجتمع نتمناه ونسعى إليه وكيف نصله وبماذا؟ أي سلّم قيم سياسي واجتماعي؟ أي وطن ومواطنة؟ أي سلطة وكيف؟
ليس أمامنا غير هذا. وإلا، فسننطفئ، وستعم العتمة المذهبية هذا المشرق إلى أبدٍ، بعده الاندثار.
قد نبقى بشراً بلا إنسانية.
كتلاً بلا قضية.
جماعات بلا مدنية.
قد نبقى خارج الزمن. كثيرون سبقونا إلى الاختفاء. ليس أمامنا سوى أن نيأس مما يجري، ونأمل بما لم يحدث بعد، وهو رهن العقل والثقافة والفعل… ليس أمامنا، كأمة للمستقبل، غير أن نقول: لدينا حلم وسندافع عنه.
هل هذا جنون؟
إنه أعقل بكثير من الجنون الدامي الذي يُرتكب بحق هذه المجتمعات المتروكة لذئاب الحروب المفترسة.
قليل من هذا الأمل، يعيد إلينا توازننا المفقود. فبين أن لا نكون في الواقع الراهن، وبين أن نكون في الحلم والوهم، علينا أن نختار الحلم والوهم.
عندها، قد نكون، ولو بعد عشرات الأعوام، ورثة الحروب التي اندلعت بين دول وأنظمة وأديان وطوائف وعشائر.