إن قراءة سريعة لموقع المبادرة الرئاسية المطروحة لانتخاب النائب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية من التطورات المحيطة بلبنان، وفي مقدّمها مسار التسوية المطروحة لمعالجة الأزمة السورية، تظهر من دون ريب نيّة صاحب المبادرة، أي الرئيس سعد الحريري، فصل الوضع اللبناني عن التسوية المطروحة في سوريا، بعد أن كان هاجسه، كما هاجس الكثيرين من اللبنانيين، فصل الوضع اللبناني عن الأزمة السورية.
أما السبب فبسيط، كما يبدو لكثيرين من المتابعين، وهو عدم الرغبة في انتظار نضوج التسوية السورية الذي يحتاج إلى ثمانية عشر شهراً على الأقل وفقاً للروزنامة التي حدّدها مؤتمر فيينا، لفتح الباب أمام نضوج التسوية الرئاسية في لبنان.
ذلك أنه على الرغم من الترابط البديهي بين أزمات المنطقة، أي بين سوريا واليمن وليبيا والعراق ولبنان، والذي يفترض ترابطاً مماثلاً في تسوية هذه الأزمات، والتي بدأت تلوح في أكثر من بلد عربي، إلا أن ملف لبنان يبقى «الأسهل» والأكثر أهلية للحلّ قبل معالجة الأزمات الأخرى وفقاً لرأي الرئيس الحريري ومثله رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي لطالما تمسّك بهذه «البديهية» منذ توقيع الاتفاق النووي بين الغرب وإيران.
وفي اعتقاد رئيس المجلس أن أزمة لبنان يمكن اختصارها بعنوان وحيد هو الشغور في موقع الرئاسة الأولى، الذي وإن انعكس سلباً على مواقع حيوية كثيرة في الدولة، مثل مجلس النواب والحكومة وغيرهما، إلا أن انتخاب رئيس للجمهورية يكفي لمعالجة المشكلات الأخرى تلقائياً لأنه يعيد انتظام عمل المؤسسات على النحو المطلوب، وبالتالي يعيد الحياة إلى شرايين الدولة.
فإذا كان تورّط «حزب الله» في أتون الحرب السورية شكّل بحدّ ذاته عامل ربط للوضع اللبناني بالوضع السوري، وإذا كان إعلان أحد المسؤولين الإيرانيين «أربع عواصم عربية» تحت الوصاية الإيرانية يقود الى ربط وضع لبنان بأوضاع العواصم الثلاث المتبقية، فإن المبادرة الرئاسية المطروحة فصلت بصورة مباشرة بين الوضعين المحلي والإقليمي، ورسمت حدّاً فاصلاً بين حالتين.
معنى ذلك أن نجاح المبادرة الرئاسية يُخرج لبنان من لائحة الانتظار، فلا يبقى في الثلاجة حتى بزوغ فجر الحلّ في سوريا واليمن وليبيا، مع العلم أن حراكاً دولياً جدياً بدأ يلوح على أرض الواقع ويطرح مشاريع تسويات وخرائط طرق من شأنها أن تضع قطار الأزمات المشار إليه على سكّة الحلول.
ربما استفادت المبادرة من فتح باب التسويات في المنطقة، من اليمن مروراً بليبيا وصولاً الى سوريا، لكن أهميتها تكمن في أنها لم تنتظر اكتمال هذه التسويات، تماماً كالمبادرة التي أطلقها الرئيس الحريري عندما لم ينتظر أكثر فصول الصراع الدائر في سوريا ليوافق على المشاركة في حكومة تضمّ «حزب الله» برئاسة الرئيس تمام سلام.
في المرة السابقة رفض الحريري انتظار انتهاء الأزمة السورية، واليوم لا يريد انتظار انتهاء التسوية في سوريا، ليوفر على لبنان في حال نجاح المبادرة مزيداً من الأثمان السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي الحالين ثبت شرعاً أن ما يشاع عن رهانه على انتصار محور على آخر في المنطقة لينقضّ على خصومه في الداخل هو هراء بهراء، وأن الاستقواء بالخارج في لحظة قوة للارتداد على الداخل هي سياسة الفريق الآخر وتحديداً «حزب الله» وليس صاحب المبادرة.
حتى إن الاستقواء بالداخل في حالات القوة أيضاً لم يكن يوماً جزءاً من أجندته السياسية، بدليل الانتصار التاريخي الذي حققه وقوى 14 آذار في انتخابات 2009 النيابية، رغم تقديرات عربية ودولية مخالفة في ذلك الحين، ودعوته بعد ساعات من هذا الانتصار إلى حكومة «وحدة وطنية».
ومعنى ذلك أن الرئيس الحريري يعرف تماماً معايير التوازن اللبناني في بلد توازنه «منه وفيه»، بمعنى أن أحداً لا يمكنه أن ينتصر على الآخر أو يلغيه، سواء من خلال قوة دفع داخلية أو خارجية، تماماً كما حصل بنتيجة الصراعات السياسية اللبنانية على اختلافها، وكذلك بنتيجة الحروب الأهلية المسلّحة الصغيرة والكبيرة، التي لم يربح فيها أحد، بل انتهت وقد خسر كلُّ الأطراف المشاركين فيها، ولم ينتصر سوى شعار «لا غالب ولا مغلوب» الذي يمثّل روح المبادرة الرئاسية المطروحة اليوم.