هامش المناورة يضيق في «جردة حساب» التجربة
مبادرة «الشيخ سعد».. هل ستكون الأخيرة؟
يتصرّف الرئيس سعد الحريري وكأنه يضع رجلاً في طائرة الإياب التي ستقلّه الى بيروت، ورجلاً أخرى على أرض المطار. لا هو قادر على حسم قرار العودة من عندياته، ولا بمقدروه أن يدير الأذن الطرشاء على الصخب الرئاسي فينتظر ببرودة أعصاب انتهاء «الماتش» بين المتبارين الموارنة وكأنه غير معني بما يحصل على الحلبة.. هو مستعجل أكثر منهم لحسم النتيجة وإخراج الشغور من القصر.. وهنا مصيبته.
لم يعد خافياً أنّ الرجل يحاول جاهداً تركيب أذن جرّة الرئاسة بشتى الطرق. المهم أن تعود الى مكانها بمعزل عن هوية صاحب الحظ السعيد. فعلها مع ميشال عون بعدما تأكد له بالبراهين والإثباتات الإقليمية أنّ تجربة ميشال سليمان لن تتكرر، وبأن قوى «8 آذار»، وتحديداً «حزب الله»، لن يقبل بعد اليوم بـ«المعادلة الخشبية» التي تدفعه في كلّ مرة الى ابتكار صيغة حكومية تجعله ممسكاً بالثلث الضامن، خوفاً من «غدرات الشركاء». وها هو يكررها مع سليمان فرنجية.
عملياً، هو ليس الخوف على كرسي الموارنة الذي يحرك رئيس «تيار المستقبل» ويملأه حماسة لدرجة دفعه الى رمي كل أوراقه الرئاسية دفعة واحدة كي يأتي بزعيم «المردة» الى القصر، وإنما هو الخوف على الذات، من «النفي السياسي» بعد سلسلة الانتكاسات التي أصيب بها، من تنامي أحجام ذوي القربى ما يشجع بعضهم على «التمرد» عليه، من تشتت بيته «الأزرق» وتململ ناسه، من انتهاء صلاحية الشعارات السيادية بعد تعرضها للضرب من جانب السياديين، وحتى من عدم القدرة بعد الآن على استثمار «ولاية الدم».
كل هذه العوامل تحمل الرجل على التفكير بابتكارٍ جديد من شأنه أن يعيده الى السرايا زعيماً بعد استعادة الدور و «منصة» الحاجة اليه. لكن أزمته ليست فقط في «غربته السياسية»، وإنما في سلسلة الإخفاقات التي سجّلها منذ دخوله نادي رؤساء الحكومات، كما يقول مسيحيون معارضون له، والتي أكلت من رصيد «نجل الشهيد» وليس رصيد سعد الحريري فقط، وتجعله يقترب يوماً بعد يوم من حافة «الإفلاس السياسي».
بنظر هؤلاء، لم يبدأ التراجع راهناً، لكنه يعود الى اليوم الذي سجّل فيه أول «سقطاته» بالنوم على «سرير» بشار الأسد حيث ذهب بعيداً في اجتهاده لـ «السين سين»، أكثر مما طُلب منه، وحين عاد أدراجه راح يخطط لكيفية توجيه ضربة لبشار الأسد و «حزب الله»، ما اضطر الأخير الى سحب البساط من تحت قدميه، من أمام البيت الأبيض. فكان أول مسمار في نعش علاقته مع شركائه الجدد الذين ارتضى بفعل «اتفاق الدوحة» أن يمد لهم اليد ويجلس معهم على طاولة واحدة.
وبالأمس، طرق باب الرابية ليدغدغ طموحات جنرالها عارضاً عليه تسوية رئاسية لا لبس فيها، فإذ به يعجز عن الالتزام بما سبق ووعد به، ليعود ويكرر التجربة ذاتها مع ميشال عون أيضاً في مسألة قيادة الجيش، وبالطريقة ذاتها، لينتهي به المطاف، كلاماً من دون أفعال.
صحيح أنّ السفير الأميركي دايفيد هيل يقول عنه مبرراً «إخفاقاته» إنّه صادق في ما يعد به لكنه يعجز عن «التسليم»، الا أنه بالنسبة للرأي العام، «المستقبلي»، قبل اللبناني، يغرق نفسه في مستنقع الأخذ والرد والتعرّض لمصداقيته، وكأنه قرر اليوم تعلّم فنّ السياسة وألاعيبها ولا مانع بالتالي من بعض الهفوات، لا بل الكثير منها، طالما هو لا يزال «متمرّناً».
عملياً، لن تكون جردة سنوات «التمرّس» لصالح سعد الحريري. لا في علاقته مع الحلفاء، ولا مع الخصوم، ولا حتى في وقْع اسمه على جمهوره وبقية الناس.
مع سليمان فرنجية والعرض الثنائي المطروح أمام قوى «8 آذار»، ثمة من يقول إنّها قد تكون الفرصة الأخيرة لرئيس الحكومة السابق كي يلملم «آثامه» ويعوّض بعضاً من هفواته. بنظر معارضين له، قد تكون آخر مبادرة قد يقدم عليها، وفي حال فشلها، سيصعب عليه من جديد أن يقدّم عرضاً جديداً.
وفق هؤلاء، فإن هذه المحاذير صارت جدية، لأن الرجل لم يعد يملك هامشاً من المناورة بعدما استهلك كل مصداقيته وخبرته السياسية التي كان يفترض أن تنذره بالعقبات المنتظرة أمامه نتيجة السير بالقطب الزغرتاوي رئيساً. كان من البديهي أن يدرك أن «حزب الله» لن يفرش الطريق بالورود فور سماعه هذه الأنباء، وأن ميشال عون سيمانع حتى آخر رمق من ترشيحه، وأن سمير جعجع لن ينكسر بسهولة ويمنح بركته تلقائياً.
كل هذه الموانع كان يفترض أن تكون حاضرة في ذهن الرجل وعلى طاولة حساباته قبل أن ينجرف في اندفاعته من دون تحصينها جيداً. ولهذا بدا أن أثمان هذه المبادرة، سواء حصلت أم لم تحصل، كبيرة.
العلاقة مع حليفه «القواتي» تعرضت لشرخ عميق سيصعب لحمه حتى لو عادت المبادرة أدراجها أو انتهت الى دخول معراب شريكة فيها. لكن «الطعنات» التي يتهم الفريقان بعضهما بعضاً بتوجيهها الى الآخر، كفيلة بمنع عقارب الساعة من العودة الى الوراء، وإصلاح ذات البين. وهذا ما يدل على أنّ أداء رئيس «المستقبل» هو سبب جوهري لتدهور العلاقة بين الحليفين ولبلوغها حافة الانهيار.
ومع ذلك، ثمة من ينتظر الساعة التي سيرفع فيها سعد الحريري أصابعه العشرة استسلاماً. اذ يسود الاعتقاد أنه كلما تعرض الرجل لوعكة سياسية جديدة كلما زادت الاحتمالات بإمكانية تقديمه مزيد من التنازلات. فما يقدم عليه اليوم لم يكن منتظراً بالأمس، وما قد يقدم عليه بالغد ليس متوقعاً اليوم.
ولهذا يرى بعض المسيحيين، أن كل هذه الإخفاقات ستضاعف الفرصة أمام الساعين الى قانون الانتخابات، لأن ما يرفضه اليوم رئيس «المستقبل»، سيقدمه بالغد على طبق من الفضة.