IMLebanon

كتابةٌ جَلِفةٌ تجاه الضحايا البريئة وغير البريئة

“أجدادُنا” اليمنيّون، مثل “أبنائِنا” اللبنانيّين، يحبّون اللعب مع الكبار مع أنهم في الغالب، أعني اليمنيّين واللبنانيّين، يخرجون خاسرين. يعتقدون، وكلهم يملكون حيويّة “المراهقين” سياسيّاً وشجاعتهم وتهوّرَهم، أنهم قادرون على توريط الكبار في صراعاتهم مع أن هذه الصراعات تنتهي غالبا بتدمير ازدهار اللبنانيين، الازدهار الشرعي والازدهار غير الشرعي، وبتعميق فقر اليمنيين، الفقر المدقع المقبول والفقر المدقع غير المقبول.

تَقاطَعَ الجيوبوليتيك المعاصرُ لليمن ولبنان مع الخصائص النفسيّةِ للقبائل هناك وللطوائف هنا. التراكم السياسي والاجتماعي حوّل الطائفة في لبنان إلى مجرّد قبيلة وحوّل القبيلة في اليمن إلى مجرّد طائفة. كانت الدولة في اليمن الشمالي واجهة قبائل، وفي اليمن الجنوبي واجهة جهات، أما الدولة في لبنان فتغيّرت من واجهة تفوّقٍ طائفي في وعلى الدولة المركزية إلى توازن دويلات طائفيّة.

أستطيع الزعم أن اللعبة الإقليمية الدولية فرضت نفسها على المجتمع السوري فتمزّق مع ثورته بين جبروت أطراف هذه اللعبة. بمعنى ما هذا حصل في العراق وليبيا اللذين أبديا طويلاً، مثل سوريا، قابلية  لقبول حكم استبدادي مركزي في كلٍّ منهما. أما لبنان واليمن فشاركا ويشاركان دائما في “استدراج” الخارج القريب أو البعيد أو في ما يعتقدانه “استدراجا” ليكتشفا دائماً أنه تحوّل إلى استتباع كامل لهما.

في اللحظة الراهنة لا فارق في الصورة إذا التقطناها من مرتفعات الجو الدولي الإقليمي بين أوضاع لبنان واليمن وليبيا وسوريا والعراق، فكلها جبهات عليك أن تستفيق صباحا وتسأل عمّا يحصل عليها باعتبارها جبهات حرب واحدة. من عرسال إلى باب المندب مرورا بدير الزور وتكريت وعدن حتى مصراتا. لبنان يختلف قليلا الآن، من حسن الحظ، لأن جبهته العسكريّة على الأطراف فيما مركزه في بيروت ومدنه ومحيطها ليست ساحة حرب وإنما ساحة خدمات سياسية وإعلاميّة وثقافيّة ومصرفيّة وسلاحيّة (أي تجارة سلاح) و آثاريّة (أي تجارة آثار) وطبعا “مخدّراتيّة” لكل أطراف الحروب ولاسيما للحرب في سوريا والعراق.

هكذا تفاهمت القوى الدوليّة والإقليميّة الأساسية على جعل لبنان “سويسرا” حروب المرحلة أي ساحة خدماتها السلميّة. فيما اليمن كبرت فيه الحرب إلى مستوى خطير واستثنائي إقليميّا بين إيران التي لم تترك حتى “ناطوراً” شيعيّا واحدا لم تحاول توظيفه في استثمارها المذهل عبر كلِّ “المساحات” الشيعيّة في العالم العربي مع ما يعني ذلك، من مجازفة غير مسبوقة بالتركيب السياسي للمشرق العربي لا مثيل لها في العصور الحديثة، وبين السعودية التي كلما توسّعت اهتماماتها ونفوذها الديني والمالي في المنطقة والعالم من آسيا الوسطى إلى إندونيسيا إلى أوروبا وجدت نفسها فجأةً وهي “تقاتل” على حدودها الشمالية والشرقية والجنوبيّة. والحدود الأخيرة أي الجنوبيّة تبدو بالنسبة للمملكة وكأنها التطوّر الذي يستلزم إعلان النفير العام… وهو نفير مرهوبُ الجانب بل الجوانب لأنه غير عادي منذ عهد المؤسِّس الملك عبد العزيز. فحتى في أيام الصراع الناصري السعودي على اليمن لم تتدخّل المملكة مباشرةً في القتال بينما اليوم هي في واجهة “العاصفة” ولو أنها لا تزال جوية وبحريةً حتى الآن.

سنرى لاحقا ماذا يستطيع بعدُ.. أن يفعل الدهاء الإيراني، فلكل دهاء حدود، وماذا يستطيع أن يفعل الغضب السعودي، وهو الغضب الذي ربح كل معاركه الكبرى في القرن العشرين ضد الهاشميّين ثم عبد الناصر ولاحقا ضد صدام حسين بعدما جمح  الديكتاتور العراقي خارج “توظيفه” الخليجي ثم ضد ” القاعدة” كتهديد داخلي… ماذا سيفعل الآن ضد إيران التي تحاول تكريس حضورها في المنطقة بعد غياب أكثر من خمسماية عام هي كل العهد العثماني والسيكس بيكوي حتى الثورة الخمينيّة؟

هناك “أسرار” عديدة للقوة السعودية منها المال النفطي طبعا ومنها حجم الأهمية في النظام الغربي المسيطر على النظام الدولي وضمنه الشرق الأوسط ومنها العصبية الداخلية للنظام التي ننساها أحيانا بسبب الرخاء النفطي ولا تظهر إلا في الأزمات الكبيرة. الأزمة اليمنية ونتائج تفاقمها الحالي ستُظهِر مدى ثبات كل من هذه العناصر الرئيسيّة في المعركة الحالية الكبرى والأولى التي يخوضها السعوديّون في القرن الحادي والعشرين.

هل أبدو جلفاً تجاه الضحايا البريئة وغير البريئة في حروب المنطقة إذا كتبتُ أن ما يعنيني، مثل عرب كثيرين غيري، قبل كل شيئ اليوم في الحرب الأهلية الشاسعة في المنطقة هو مسار الدور المصري؟ بل هو مصر. فهذه الدولة التي نجحت في التماسك كدولة وكمجتمع في الداخل عبر حربٍ ربحها السلم المصري وثقافته العميقة، رغم كل إفرازات التطرّف الأصولي وسقوط “الإخوان المسلمين” في وحول الانحراف العنفي في مصر… هذه الدولة التي هي دولة عشرات ملايين الفقراء، الفقراء الأكثر عدداً في المنطقة، مثلما هي دولة النخب الأكثر اتساعا وتأثيرا وإبداعاً في المنطقة… هذه الدولة تجد نفسها صاحبة عدد من المبررات للدخول في الحرب اليمنيّة دفاعا عن المدخل الجنوبي “الوحيد” لقنال السويس وهو باب المندب ولكنها في الآن معا تحاول إرساء موازين جديدة سياسية واقتصادية لمعادلة أن دول النفط الخليجيّة ليست فقط حاجةً استراتيجيّة اقتصادية لها، أي لما يُسمّى الأمن الاقتصادي المصري، بل أن مصر هي بالدرجة نفسها حاجة استراتيجيّة لدول مجلس التعاون الخليجي. هل ستتطوّر العلاقة المصرية الخليجيّة إلى أكثر من مفهوم ” المساعدة” المالية إلى نوع من ” الشراكة” المالية ؟ فهذه العلاقة المصرية الخليجية قائمة الآن بشكلٍ واضح على أن كلاً من الجهتين لا تستطيع الاستغناء عن الأخرى وليس جهةً دون الأخرى.