Site icon IMLebanon

مجزرة “الحشرات” وخطيئة الدولة والجراد الآتي

 

بعد الفساد والسمسرات ونهب المال العام وعرق العباد وتهديد كورونا والتنبيه من الجراد، ومن إرتدادات إهتزازية قد تليها زلازل وويلات أتانا النمنم والبرغش والبقّ والخنافس والصراصير… وماذا بعد؟ هل ما أصابنا في اليومين الماضيين مجرد ظواهر طبيعية مختلفة عن الظواهر اللاطبيعية التي تُصيبنا بفعل الأشخاص؟

فلنخفف قليلاً من التشنجات التي تجتاحنا، لكثرة ما يُصيبنا من بلاء، بالقول للمذعورين من انتشار الصراصير: مهلكم فالصراصير أغلى من لحم البقر في الكونغو. سعرالكيلوغرام الواحد منها يزيد عن الخمسين دولاراً أميركياً. أنظروا الى النصف الملآن من الكوب واحمدوا الطبيعة التي رمتنا بأفواج وأفواج من الصراصير. فلنضرب رقم خمسين بأربعة آلاف فنحصل على رقم 200 ألف ليرة. فكم أهدرتم في اليومين السابقين من آلاف سدى برشِّ الصراصير بمبيدات قاتلة!

لسنا في آخر الدنيا. إطمئنوا. العام الماضي، في نفس هذه الفصل تقريباً، ما إن انتهت آخر شتوة حتى اجتاحت حشرات “نمنم” مناطق كثيرة في لبنان. وقبل عامين، مع دخولنا فصل الربيع، إنتشرت الحشرات والبق والنمنم والبرغش في مناطق كثيرة. والسبب هو خروجنا بسرعة من مناخ شتوي الى مناخ ربيعي رطب. هذا ما يحصل في كل مرة تتساقط الأمطار فيها بكثرة ولا تلبث أن ترتفع درجات حرارة الطقس بسرعة قياسية، كما حالنا اليوم.

 

قلبَ كثيرون شفاههم وهم يشاهدون الصراصير والبق والنمنم تحوم لكن لا بُدّ أن تعرفوا منافع ما رأيتم، وأن تتذكروا هذه المنافع في كلِ ربيع. السماء يا عالم تُشفق علينا دائماً حين ترسل لنا ما رأيناه في اليومين الماضيين وما قد لا نعود ونراه الى سنة. فلنقتحم عالم هذه الحشرات التي تجرأت واقتحمت بيوتنا وقتلنا ما قتلنا منها.

رئيس الجمعية اللبنانية لدراسة الأحفوريات والتطور الخبير في علم الحشرات البروفسور داني عازار تابع عن كثب مشهد اليومين الماضيين، مستغرباً أن يحدث ما حدث ويشرح: الحشرات التي ظهرت مستوطنة هنا ولم تأتِ من أي مكان آخر، وهي موجودة دائما في الأحراج لكن حين نعيش الظروف المناخية التي تنقلنا من الشتاء الكثير وحرارة 19 درجة الى الحرّ الشديد وحرارة تزيد عن 35 درجة، علينا أن نتوقع ظهور كل هذه الأعداد من الحشرات التي رأيناها. هذا ما حدث العام الماضي وهو ما تكرر هذه السنة لكننا، للأسف، ننسى.

 

ثلاث فصائل من الحشرات زارتنا هي: النمنم وهو نوع من البق. وهذا البق لا يؤذي بل ينفع جداً. وهو ليس البق الذي تعرفونه ويعيش في الفراش. وهناك نوعان من الخنافس التي تشبه الصراصير. نوع على شكل زيز أسود كبير، طوله من ثلاثة الى أربعة سنتمترات. وهو لا يؤذي أبداً. هذا الخنفس يأكل دود العريان وهو بمثابة هدية من السماء الى المزارع والإنسان. وأشبه بمبيد طبيعي يقضي على الحشرات الضارة. وفعاليته هائلة كونه يأكل من 400 الى 500 حشرة منّ يومياً. يأكل هذا الخنفس بسرعة والأيض عنده، كما سائر الحشرات، سريع لهذا يأكل ويهضم بسرعة. وثمة نوع ثالث هو يُشبه الزيز أيضاً لكنه باللون البرونزي ويفيد جداً المزارع.

 

السماء أرسلت لنا، كما دائماً، من يساعدنا على الأضرار التي نتعرض لها بفعل الإنسان لكننا أسأنا التعامل مع “هدايا السماء”. وقمنا بمجزرة بحق تلك الحشرات المفيدة. وهنا، في هذا الموضوع أيضاً، تتحمل الدولة المسؤولية لأنها كانت تعلم أن الإنتقال من موسم الى موسم بهذه السرعة سيترافق مع ظهور تلك الحشرات المفيدة. وكان أحرى بها توعية الناس مبكراً ليعرفوا كيفية التعامل معها لكنها “كوما”.

 

لأننا غير قادرين أن نعول على الدولة وثقافة الدولة فلنسأل الخبير في علم الحشرات ماذا قد ينتظرنا بعد؟ جراد مثلاً؟

 

يجيب: الجراد موجود في الأردن وفي اليمن ولا شيء يمنع في هذا الطقس الحار أن يأتي، كما يمكن أن تأتي فصائل من الذباب، فالأرض رطبة جداً والحرارة مرتفعة جداً وهذا يساهم في “تفقيس” الحشرات. والجراد إذا أتى، بحسب عازار، سيعبر “مرور الكرام” لأنه لا يحب الصقيع والطقس الحار اليوم سيعود الى معدلاته الطبيعية بعد أيام قليلة.

 

 

“نحن متشائمون ولا ينقصنا إلا “النيازك” و”الديناصورات”. هذا الكلام سمعناه، في خلال اليومين الماضيين كثيراً، لكنه ليس واقعياً كثيراً. فثمة أشياء مفيدة تظهر. ثمة مليون و100 ألف صنف مختلف من الحشرات، بحسب الخبير داني عازار، 1 في المئة فقط لا غير منها ضار. الحشرات لا تؤذي إلا إذا أذيناها. البعوضة تعقص لأنها تكون حاملاً وبحاجة الى بروتيينات. والدبور لا يعقص إلا إذا “حركشنا في وكره”.

 

1 في المئة من الحشرات تؤذي. تُرى كم هي النسبة بين البشر؟ سؤالٌ يبقى مفتوحاً…

 

الصرصور الذي رآه كثيرون ليس نفس الصرصور الذي نراه في بيوتنا، الذي يأكل ما نأكل، من فضلاتنا، ويعيش حيث نعيش في أمتعتنا. الصرصور أو الخنفس الذي رأيناه لا يأكل إلا ما هو طازج مثل اليرقات والمنّ. هو نظيف جداً ومفيد جداً لكننا قتلناه.

خنافس 2020

 

هي مجزرة. في أوروبا يربون الخنافس والحشرات المتنوعة المفيدة من أجل بيئة سليمة. لكن، عندنا، تصرف الناس بعدائية لأنهم يجهلون ما يفعلون. هي مسؤولية يتحملها وزير الزراعة. إتصلنا به لسؤاله مراراً وتكراراً، قبل الظهر وبعده، لكنه لا يجيب.

 

نعود الى الخبير في علم الحشرات لسؤاله عن آكلي الصراصير والوطاويط والأفاعي والحشرات؟ يجيب: ليست الوطاويط التي أصبحت منبوذة مسؤولة عما أصاب العالم مع كورونا، هذا إذا ثبت أن أساس الموضوع وطواط، بل هي مسؤولية البشر الذين أساؤوا التعامل مع الوطواط. يضيف: الصراصير تؤكل في مطارح كثيرة. وليس هناك لبناني لم يتناول في حياته أي نوع من الحشرات التي تستخدم في صبغات تكسب الطعام اللون الأحمر، ونعرفها باسم “صبغة كارمين” ونجدها في الجمبون والجيلو وحتى في أحمر الشفاه. ثمة دودة قرمزية يتم طحن ملايين الحشرات من نوعها لإنتاج ذاك الصباغ. ويباع الكيلوغرام الواحد منه بأكثر من 800 دولار أميركي. ثمة بلاد كثيرة تأكل أصناف الحشرات التي تزيد نسبة البروتيين فيها عن 70 في المئة في حين لا تتعدى في الدجاج نسبة 17 في المئة وفي الماعز 23 في المئة وفي الأبقار 25 في المئة وفي الخنازير 26 في المئة وفي الحصان 28 في المئة وفي الأسماك 30 في المئة. في كل حال، تذكروا إذا أتى الجراد أن نسبة البروتيين فيه تزيد عن 76 في المئة. وقد تكون السماء هي التي أرسلت الجراد في مجاعة العام 14 إلينا لكن أهلنا فضلوا تناول الجثث وعدم تناول الجراد.

 

هناك دول كثيرة بدأت تتنبأ بشكل طعام المستقبل وخلصت الى تضمينها الحشرات. كثيرون عادوا وقلبوا الآن شفاههم لكن هذه حقيقة يجب أن تتذكروها. في فرنسا هناك مطاعم تستخدم يرقة الزيزان مع اللحمة لزيادة البروتيين. ويستطرد الدكتور عازار هنا بالقول: أحد الصينيين قلب شفتيه قرفاً حين رآنا نأكل اللحم النيء. والأوروبي تقلب معدته إذا تنشق رائحة الكشك الذي يضم أعلى نسبة من البكتيريا. فلكل شعب عاداته.

 

يكفي أن نطفئ الضوء في وجه الحشرات التي هاجمتنا لتغادر. هي حشرات مفيدة جداً لكننا واجهناها بمبيدات ضارة جداً. هي خطيئة وزارة الزراعة أولاً وليس آخراً.