يُعاني المجتمع اللبناني من حالات غريبة يعيشها بنمطٍ متتالٍ، على شكل أحداثٍ منظّمة، تزرع البَلبلة بين المواطنين من دون معرفةِ هدفها، وما إذا كانت منظّمة أو عفويّة.
يَجهل مرتكبو الأحداث المخِلّة بأمن المجتمع في أوقات كثيرة، الغاية مِن فعلتِهم، في حين يَعرفها فقط المخَطّطون لها أو مستغِلّوها. وعلى رغم جزمِ الأجهزة الأمنية بأنّ هذه الأحداث فردية، إلّا أنّ علامات استفهام تُطرَح عن تواترها. فعلى سبيل المثال، نسمع عن حادثة تعنيف إمرأة معيّنة قد تصِل إلى القتل في منطقة ما، وفجأةً تكرّ سُبحة الاعتداءات.
تُرتَكب جريمة فردية في حيّ، لتتوالى بعدها الجرائم. عِلماً أنّ الأمر لا يقتصر على جرائم القتل والتعنيف الأسري، إذ يَشهد لبنان حوادثَ سيرٍ غريبة يقع نتيجتها ضحايا تخضّ قصصُهم المجتمع.
الجرائم موجودة منذ بداية التاريخ، فـ»قايين قتلَ أخاه هابيل»، والاعتداءات على المرأة مستمرّة يومياً في أقبيةِ المنازل، وربّما يصل مجتمعنا إلى مرحلة تعنيف الرجل. لذلك، يُطرَح ملف الأمن الاجتماعي والسياسي وارتباطهما ببَعض، خصوصاً مع توتّر الوضع اللبناني.
وفي هذا السياق، يؤكّد مصدر أمنيّ متابع لـ«الجمهورية» أنّ «الأمن مضبوط إلى أقصى درجة، ويَبقى لبنان على رغم حروبِ محيطِه العربي، البلدَ الأكثرَ أمناً وآماناً، لكنّ الأمن الأخلاقيّ هو في حالٍ يُرثى لها، والسبب يعود إلى أوضاع اللبنانيين المعيشية وظروف الحياة الصعبة والحالة السياسية المترَدّية»، لافتاً إلى أنّ «التحقيقات في الجرائم الأخيرة التي حصَلت أثبَتت أنّها فرديّة وليس لها ارتباط سياسيّ أو استخباراتي».
ويَشرَح المصدر صعوبةَ إنهاء ظاهرة الجرائم، فيقول: «يَعتدي الزوج على زوجته ويَقتلها داخلَ المنزل، فهل يمكن لقوى الأمن الداخلي والجيش الحؤولَ دون وقوع هكذا جريمة، وهل يَرضى المواطنون بوضعِ عنصر أمنٍ داخلَ كلّ منزل؟ وإذا سَلّمنا جَدلاً أنّنا نستطيع فعلَ ذلك، وهذا مستحيل، فأين الحرّية الشخصية واحترام حرمةِ المنزل؟».
ويشير في المقابل إلى أنّ «جريمة قتلِ المواطن جورج الريف في الأشرفية وقعَت قبل أن تصلَ القوى الأمنية، لكنّنا قبضنا على القاتل سريعاً، وقد سِيقَ إلى المحاكمة، وهنا دور القضاء لإنزال أشدّ العقوبات في حقّه لكي يرتدعَ المجرمون».
عرفَ لبنان فترات مِن الازدهار والرخاء والاستقرار، لكنّ الحرب الأهليّة حَطّمت النفوس وشرّعت قانونَ «الغاب»، وتَرافقَ ذلك مع ضعفِ الدولة وعدمِ قدرتِها على بسطِ سيطرتها على كلّ الأراضي اللبنانية، وبقاء بؤرِ الإرهاب والخطف والمخدّرات حرّةً طليقة. وما زاد مِن وحشية ارتكابات بعض اللبنانيين، مشاهدتُهم فظائعَ الجرائم في بلاد الجوار، مِن ذبحٍ للإنسان وحَرقِه وتقطيعِه.
كلّ ذلك، قلَبَ المفاهيم الأخلاقية وأثّرَ في نفوس المواطنين الذين يشاهدون أفلامَ القتلِ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتردّد الحدث كلّ دقيقة ويَحتفظ به المواطن في هاتفِه، ويعود إليه كلّما أرادت النفس الوحشية في داخل الإنسان رؤيةَ مثلِ هكذا مشاهد.
تَرتبِط كلّ هذه المعطيات بعضُها ببعض، إذ إنّ فصلَ الأمن عن السياسة والإعلام والمجتمع غيرُ وارد وغير منطقي في حسابات الأجهزة الأمنية، التي تقعُ بين مطرقةِ الحرّيات الشخصية وسندان القوّة الرادعة، في حين أنّ تدَخّلَ أجهزة الأمن في السياسة في بلدِ الأرز غيرُ مرحَّب فيه، على رغم الارتباط العضوي لكلّ هذه الأزمات، فإذا نَفّذَت الأجهزة تدبيراً ما لقمعِ المخالفات في منطقة معيَّنة، يقال إنّه استهداف لطائفة، مهما كان هدف العملية نبيلاً.
يستمرّ مسلسل التسَيُّب الأمني على وقعِ شَللِ المؤسسات الدستورية التي دخَلت نفَقَ الفراغ المعلَن والمبَطَّن. والخوفُ مِن تسَيُّبِ مرافِق الدولة، فننتقل بالتالي إلى حالةِ عصيانٍ إرادية تلقائية، في حين يستمرّ الكباش الحكومي والصراع على رئاسة الجمهورية، فيما تضرب السياسة كلَّ مؤسسات الدولة.
إذا كان رجلُ الأمن والقضاء يَردع المجرم إلى حدود معيّنة، فمَن يَردع السياسيّين؟