Site icon IMLebanon

ما بين الأمن المفقود والأمان المنشود

 

يشهدُ لبنان حالةً من الفلتان الأمني غير مسبوقة، وكل المؤشِّرات توحي بأن الوضع آيلٌ إلى الأسوأ، ذلك أن المجتمع اللبناني برمَّته أضحى مستباحاً أمنيًّا، والمواطنون اللبنانيون بغالبيَّتهم يُعانون على الدَّوام من هواجِسَ أمنِيَّة مُقلقة، لكونهم أضحوا عُرضةً لشتَّى أنواع الجرائم سواء الواقعةِ منها على الأشخاص أم على الأموال، فأنباء جرائم القتل أضحت شبه يوميَّة وأعمالُ السَّلبِ والنَّشلِ أمست مألوفة، ولا تقلُّ عنها السَّرقاتُ التي تستهدف المنازل والمحال التِّجاريَّة ومقار الشَّركاتِ ومخازنها، أما تلك التي محلّها السَّيَّارات فحدِّث ولا حرج، فإن لم تُسرق السَّيَّارة وهي مركونة فتُسلب من أصحابها بقوَّة السِّلاح، أو عبر مناورة احتياليَّة بطلُها لص متربِّصٌ أمام مطعمٍ أو مقهى أو مرآب ومُتخفٍّ بزيّ عامل مرآب لركن السيارات، هذا عدا جرائم التَّحرُّشِ جسديًّا أو لفظيًّا وغيرها من جرائم الإيذاء والقدح والذَّم والإفتراء والتَّخريب المُتعَمَّد… الخ..

نعم إن الوضع الأمني ليس على ما يُرام بل هو مقلق، ولا تقتَصِرُ أسبابُ تَردِّيه على أداء بعض المسؤولين إنما على المنظومَةِ السِّياسيَّة بكاملها، وخاصَّةً أولئك الذين شكَّلوا قدوةً سيئةٍ يحذو حُذوها سائرُ المجرمين الذين أمست جرائمهم لا تضاهي بخطورتها مع ما ارتكبه كبار المسؤولين بحق الوطن، من خرقٍ للدُّستور، وانتهاكٍ للقوانين، وتجاوزٍ للمُحرَّمات الوطنيَّة، والتآمر على الوطنِ والمُواطن، هذا بالإضافةِ إلى التَّدخُّلِ السَّافر في أعمالِ الأجهزةِ القضائيَّةِ والأمنيَّة، بإيلاء المناصِب الحسَّاسةِ إلى مُتزلفين مُقرَّبين منهم تارةً، وإقصاء أصحاب الكفاءة والنَّزاهةِ والشَّفافيَة، الأمر الذي انعكس سلباً على أداء القطاع العام، وانكفاء الجهاز القضائي عن دوره وتراجُعِ مستوى أداء الأجهزة الأمنيَّة عامَّة، وتسبَّبَ في بقاء كبارِ المُرتكبين بمنأى عن المساءلةِ والمُحاسبة والعِقاب، وتسيُّبٍ في الوضع الأمني وتفشي العديد من الظَّواهرِ الإجراميَّة.

 

الأمان المنشودُ يتطلَّبُ في المقام الأول رغبةً صادقةً لدى المسؤولين في تحقيق العدالةِ الإجتماعيَّة والقضائيَّة، وهذا يستوجبُ منع التَّدخُّلات السِّياسيَّة في الجهاز القضائي كما في مُختلفِ الأجهزةِ الأمنيَّة، كما يتطلَّبُ إعادةَ النَّظر في الإيديولوجيَّة الأمنيَّة والسِّياسةِ الجِنائيَّةِ المُعتمدين، وعلى نحوٍ يوازنُ ما بين القَصاص الرَّادِع والإصلاح السُّلوكي؛ كما يتطلَّبُ تقليص عدد الأجهزةِ الأمنيَّة بدمج بعضِها، وإعادة النَّظر بتوزيع صَلاحِيَّاتِها، كما إعادة النَّظرِ بهيكليَّات كل منها، على نحوٍّ يوفِّرُ لها قدراً أكبر من المُرونةِ وهامِشاً أوسَعَ للمُناورَةِ، واعتمادِ التَّخصُصِيَّةِ في توزيع المَهام داخل كل جهاز بما يضمن فاعليَّةَ التَّدخُّلِ في مَعرضِ مُكافحةِ بعضِ الأنماطِ الإجراميَّة ذات الخُصوصيَّة، كجرائم: الإرهاب والاتِّجارِ غير المشروع بالمخدرات، والاتِّجار بالبشر وجرائم المعلوماتيَّة والجرائم الاقتصاديَّةِ والماليَّة… الخ، هذا على المديين المتوسط والبعيد.

 

وتحقيق الأمن على المدى القصير يتطلَّبُ من المعنيين به مُتابعاتٍ حثيثةً وعملانيَّةً والتَّصدي للظواهرِ الإجراميَّة بحزم، والعملَ على توفيرِ مُقتضياتِ التَّصدي لها قبلَ تفشّيها وتفاقُمِها، وذلك من خلال دراسةِ وتحليلِ البيانات ذات العلاقَةِ بالجرائم، بغرضِ تحديدِ أنماطها، والأماكنِ والأوقاتِ التي تُرتَكَبُ فيها، والأساليب والأدواتِ الجُرميَّة المُعتمدَةِ في ارتِكابِها، وتحديدِ الجهاتِ الضَّالعة في ارتكابها سواء كانوا شبكات إجراميَّة، مُجرمين محترفين، معتادي الإجرام، أصحاب سوابق، مجرمين بالصُّدفة أو عرضيين… الخ، وذلك لتوقّي ارتكاب الجرائم عامَّة.

هل يعي من يعنيهم الأمر أن المديريَّةَ العامَّةَ لقوى الأمن الدَّاخلي، وهي المعنيَّة الأولى في استتباب الأمن داخليًّا ومكافحَةِ الجريمةِ بكُلِّ أنماطها وصورِها، تُعاني من تَرَهُّلٍ في هَيكليَّتها، وتَناقُصٍ مضطردٍ في عَديدِها ونقصٍّ حادٍّ في تجهيزاتها اللوجستيَّة، وأن المَخافرَ الإقليميَّةَ التَّابعةَ لها والمعنيَّة بمكافحةِ الجريمةِ تكادُ تكون مكبَّلة ومُغيَّبة، لاقتصارِ دورِها على تلقّي الشَّكاوى والإخبارات، وكأنها مراكزُ إحصاء للجرائم مُعفاةٌ من مسؤوليَّاتِها الأساسيَّةِ المتمثلة في مكافحة الجرائم، وجمعِ المعلومات عنها وتبويبها وتَحليلها واستغلالها تمهيداً لتحديدِ المُساهمين فيها ومُلاحقتِهم؛ وحدها شعبةُ المعلومات، التَّابعة لقوى الأمن الدَّاخلي، تحقِّقُ نتائجَ مقبولةٍ نتيجةَ جهودِ فرعِها الفني الذي يُعنى بتحليلِ داتا الاتِّصالات وتسجيلات كاميرات المراقبة، ولكن جهودها تبقى انتقائيَّة وعاجزة عن تحقيق الأمن، كون تدخلاتها تقتصرُ على بعضِ الجرائمِ الخَطِرَة، وتليها شعبةُ المُخابراتِ في الجيش اللبناني، والتي تَحرِفُها اهتماماتها الأمنيَّة عن صلبِ واجِبِاتها العسكريَّة، وأعني بذلك العمل المُخابراتي (الاستعلام العسكري عن العدو الإسرائيلي ونشاطاته العدوانيَّة) رغم أننا على أبواب حربٍ تندرجُ ضمن صراعٍ عَسكرِيٍّ شبه مُستدام مع عدوِّ مُتربِّص بلبنان ومُتأبِّط شَرًّا ؛ وبالتالي نحن بأحوج ما يكون لتَسخير كُلِّ جُهودِ القِوى العَسكريَّةِ والاستِعلامِيَّةِ في هذه الصِّراعِ المَصيري.

 

إن كبار المسؤولين مُطالبون في الوقوفِ على أحوالِ القُطعاتِ الأمنيَّة، للإطلاع على إمكاناتها كما للوقوفِ على احتياجاتها البشريَّة واللوجستيَّة، والسُّبل الكفيلةِ بتنميةِ قدراتها ومهاراتها وتفعيلِ تدخُّلاتها، ومُعالجةِ المُعوِّقات التي تحول دون قيامها بواجباتها على أكمل وجه. من هنا أدعو المسؤولين وفي طليعتهم الوزراء المعنيين للمبادرةِ إلى القيامِ بزياراتٍ ميدانيَّة تفقديَّة لا إعلانيَّة لتلك القطاعات، على الأقل لعيِّناتٍ منها (مخافر، فصائل إقليميَّة، مفارز سير، مفارز إستقصاء، مفارز تحرّي، مكاتب إقليميَّة مُتخصِّصة… الخ)، كما أدعوهم لتَفعيل دور القطعات التي تعنى بالتفتيش والمتابعة كالمفتشية العامَّة لقوى الأمن الدَّاخلي وشعبة التَّحقيق والتَّفتيش، ومثيلاتهما في الأجهزة الأمنيَّة الأخرى، للقيام بحملات تفتيشيَّة شاملة وهادفة، للوقوف على الأسباب الحقيقيَّة التي أدَّت وتؤدّي إلى تراجع الانتاجيَّة في القطعات العملانيَّة، واستِخلاص المُقاربات والمبادرات المُجدية والتي أثبتت فعاليَّتها، ورفع تقارير مفصَّلة بهذا الخُصوص، تُسلِّط الضَّوء على مواضع الخلل، وتتبنّى مقترحاتٍ عمليَّةٍ تؤدي في حال اعتمادها إلى رفع مستوى الإنتاجيَّة وتحسين جودة الأداء الأمني عامَّة.

لا شكَّ في أن توطيدَ الأمن وإرساء الأمان في المجتمع يتوقَّفُ إلى حدٍّ كبيرٍ على مُستوى هيبةِ الدَّولة، كما على مدى ثقةِ المواطنين بإداراتها ومؤسَّساتها الرَّسميَّةِ وأجهزتها العسكريَّةِ والأمنيَّةِ على وجه التَّحديد. والأمن إمَّا أن يكون شامِلاً ومتكاملاً وإلَّا لا يكون، فمن العبثِ القول بمكافحة الجريمة وفي الوقتِ عينه ثمَّةَ تساهُل في قضايا المخدرات (إنتاجاً، واتِّجاراً وتعاطِيًّا)؛ ولا يمكن تحقيق الأمن بحدودٍ مُشرَّعةٍ على مِصراعيها، وفي ظلِّ وجود كمٍّ هائلٍ من النَّازحين هويَّاتهم الحقيقيَّة غير معروفة ولا أماكن إقامتهم، ولا أسبقياتهم الجرميَّة، وبوجود آلاف المطلوبين للعدالة يسرحون ويمرحون ويطلقون التَّهديدات عبر وسائل الإعلام وهم من يقف خلف العديد من أعمال الخطفِ والسَّلبِ وسرقة السَّيَّارات، وبوجودِ مناطقَ ومخيَّماتٍ يُحظَّرُ على أجهزة الأمن الدُّخول إليها، وأخيراً لا يمكن تحقيق الأمن بتعطيل تنفيذ الأحكام الناطقة بعقوبة الإعدام، وإصدار أحكامٍ لا تتناسبُ مع الخطورةِ الجُرميَّة للصَّادرة بحقِّهم، أو بالتَّأخير في البت بالقضايا الجزائيَّة العالقةِ أمام مُختلفِ المراجع القَضائيَّة.

إن إرساء الأمن لا يتِمُّ بالإكثار من الإطلالات الإعلاميَّة أو بإطلاق الشِّعارات والتهويلات أو بتضخيم بعض الإنجازات الأمنيَّة ودفن الرؤوس في الرمال عند الإخفاقات أو حصول إخفاقات أمنيَّة، إنما باتِّخاذ تدابير وإجراءات جريئة ومُستدامة، وقراراتٍ حاسمة، تترجمُ بخطط عمليَّةٍ تنفَّذُ بدقَّةٍ متناهيَة وتتابعُ باستمرار. المطلوب إذن من المسؤولين التَّخلّي عن التَّطمينات والهوبرات والتَّحلّي بالمسؤوليَّة والعزم على مجابهةِ التَّحدّيات، والتَّفرُّغ لإعداد السيناريوهات الأمنيَّة والخطط التَّنفيذيَّة، والتَّشديد على تَّنفيذِها بحزم.

* عميد متقاعد