وابتدع لبنان الحل العجيب الغريب في ترحيل نفاياته بطريقة مبهمة غير واضحة التفاصيل، ولا بد من الإشارة هنا بأن عدم الشفافية أصبح اختصاصاً لبنانياً ينفرد فيه بوقاحة «لبنان»، وبسكوت مضمر عن الكلفة العالية التي تنتج عن هذا القرار، وكأن خيار الترحيل بات الحل المكروه الوحيد الذي فرض على اللبنانيين جميعاً تقبّله.
من المستغرب أن يمرّ القرار بهذا الكمّ من الغموض وعدم الوضوح، فمعرفتي بدولة الرئيس تمام سلام وبتاريخ عائلته، يجعلني أعتقد بأنه انسان شفاف بعيد عن الصفقات المعروفة. وأتوجه بالسؤال الى دولة الرئيس سلام، لماذا وكيف ارتضى ان يضع نفسه في هذا الموقع ويسمح بتمرير هذا النوع من الصفقات غير الشفافة والتي تدور حولها ألف علامة إستفهام؟
وكيف تحمَّل مسؤولية تجميد قانون الحق في الوصول الى المعلومات والذي مضى على وجوده في أدارج رئاسة الحكومة أكثر من سنة ونصف، علماً أنه حين تم تعيين دولة الرئيس سلام إستبشرنا خيراً انه سيكون العرّاب الأول لهذا القانون الذي يضع حداً لكافة الصفقات، واعتبرنا اننا سنفتح صفحة جديدة في اعتماد الشفافية في لبنان.
وكان الرئيس سلام طلب من دولة رئيس مجلس النواب خلال الجلسة التشريعية الاولى لحكومته، بأن الحكومة بحاجة لإعادة درس القانون على أثر وشوشة من رئيس حكومة سابق، وما زال لبنان ينتظر هذا القانون المهم جداً لمحاربة الفساد.
فمن وضع الرئيس سلام في هذا الواقع المريب، من سمح بتمرير هذه الصفقة الغريبة والعجيبة مع شركات غير معروفة، ومن دون تفصيل وتبرير للسعر وحتى من دون ادراج مردود عملية الفرز والتي تعتبر بحد ذاتها ثروة وطنية ؟
في العام 2002 وحين كنت رئيساً لجمعية الصناعيين اللبنانيين، كان اعتراضنا الاول على حصرية عملية الفرز واحتكار التدوير وبيع الscrap وكانت أبرز الاعتراضات على طريقة عمل سوكلين لعدم وضوح عملية الفرز واعادة التدوير والمردود الناتج عنها، والتي اعتبرت من الاسرار النووية حينها، بالرغم من كل المحاولات للحصول على أجوبة واضحة حول الكميات والاسعار.
والأهم الأهم، من كان يقبض ثمن الScrap المباع: الشعب اللبناني أم الشركة؟ أما اليوم فعادت حليمة لعادتها القديمة بتغطية موضوع بيع الScrap والذي يقدر في كل طن من النفايات بحوالى ال 100 دولار.
مثل هذه الأسرار النووية تعود اليوم الى الواجهة وبوقع أكبر، فهل تم تحديد هذا المردود قبل تحديد كلفة معالجة وترحيل الطن، فاذا احتسبنا مثلا مردود النفايات القابلة للتدوير قد تصبح عملية الفرز مجانية، فمثلاً يبلغ سعر طن الالمنيوم (عبوات المشروبات الغازية والبيرة وغيرها) في السوق العالمي حوالى 900 دولار، وسعر طن قناني المياه البلاستيك حوالى 200 دولار، وسعر طن اكياس البلاستيك حوالى 250 دولاراً، اما سعر الزجاج فبحدود الـ100 دولار وكذلك الورق.
لماذا نقبل بهذا الحل السريع لنقع بعدها في مشاكل كبيرة، وهل تم تعميم فوضى النفايات وتيئيس الشعب من اية حلول ممكنة داخلياً ليتم فرض هذا الحل الذي نشتم منه رائحة الصفقات والسمسرات، ولماذا التعامل مع شركات نهبها ذهباً وعقوداً لم تكن تحلم بها، بدل التعامل مع مصانع تفكك حراري معروفة تعمل على استيراد النفايات للحرق، كالموجودة السويد والمانيا مثلاً.
الأسوأ انه جرى ترويج البروباغندا أنه لا حل في لبنان إلّا بالترحيل، ومحكوم على المواطن اللبناني ان يدفع 300 دولار للطن للتخلص من نفاياته، هذه البروباغندا التي تم غسل دماغ المجتمع اللبناني بها والتي يتحمل مسؤوليتها ليس فقط السياسيون والمستفيدون من الصفقات، بل بعض البيئيين الذي بات دورهم مشبوهاً في نقض أي حل بديل ممكن اعتماده، أي لا طمر ولا حرق، أين أصوات هؤلاء اليوم في من موضوع الترحيل.
ومن العوامل التي ساهمت في ضياع الحوار العقلاني والمجدي في لبنان لحل موضوع النفايات، هو غياب المواصفات الفعلية للانبعاثات المسموح بها جراء معالجة النفايات، فماذا نعتمد اليوم في لبنان، هل نطبق المواصفات الاوروبية ؟ ام ان شروطنا أكثر تعقيداً؟
ولماذا لم تضع وزارة البيئة شروطاً واضحة بعد، هل لخلق الفوضى البناءة في هذا القطاع. ألا يكفي ان تعلن وزارة البيئة ان لبنان يعتمد المواصفات الاوروبية بالنسبة للمطامر او بالنسبة للتفكك الحراري.
فمن المغالطات التي تمت محاربة تقنية التفكك الحراري بها هو انبعاثات الديوكسين الذي جرى تصويرها بشكل خاطيء وغير علمي، وفي الوقت نفسه لم يحذر هؤلاء البيئيون انفسهم من انبعاثات الديوكسين المرتفعة جدا التي نتجت عن الحرق العشوائي المنتشر في لبنان، ولم يتم استعراض الطرق لتنظيف تربة لبنان منها في مرحلة لاحقا. وهذه لا يمكن تنفيذها الا عن طريق التفكك الحراري.
ويبقى السؤال هل تم نقض خطة ادارة النفايات المنزلية التي تم اقرارها في العام 2010 في حكومة سعد الحريري وتم اعتمادها لاحقا في حكومة نجيب ميقاتي والتي تعتمد على التفكك الحراري، وهي الخطة التي اقرت بعد سنوات وسنوات من الدراسة والتمحيص واكلاف استشارية وخبراء؟ هل تم الاستغناء عنها برمشة عين للوصول الى حل غير عقلاني مكلف على دولة يتزايد دينها العام سنة بعد أخرى.
وهل لبنان اليوم يسمح بالتفكك الحراري أم لا، ولماذا تغيب وزارة البيئة عن تحديد مواصفات علمية في ظل وجود العديد من المحارق في لبنان تعمل بشكل يومي في المصانع والمستشفيات؟
ولماذا تم التعتيم على طرق التفكك الحراري التي تعتمدها اوروبا بشكل واسع، علما ان هذا الحل يعزز اللامركزية ويوقف الصفقات والسمسرات والسرقات في هذا القطاع ويخلق فرص عمل ويسمح ببناء معامل اكثر لإعادة التدوير.
ولماذا زوّرت بعض وسائل الاعلام معاهدات دولية زاعمة انها تمنع التفكك الحراري كما زوّرت تقارير بان اوروبا ستمنع التفكك الحراري والعكس هو الصحيح.
لماذا عدم مناقشة هذا الخيار الذي يسمح لنا بمعالجة الطن بكلفة لا تتعدى ال60 دولارا تصبح صفر بعد فرز وبيع المفرز، ونصر على اعتماد الترحيل الذي سيكلف اكثر من 200 دولار للطن الواحد.
نصر على تغليب الصفقات والسمسرات والحلول المؤقتة المكلفة على التفكير بحل مستدام ومنتج يسمح لنا بتحويل النفايات الى مردود مالي على الخزينة بدل ان يكون عبئا سنتحمل تبعاته المالية لسنوات قادمة.