تعمل بلا موازنة مستقلة وفي ظل شحّ في الموارد والتمويل
بعد إلقاء الضوء على دور المفتشية العامة التربوية على صعيد الامتحانات الرسمية ومراقبة مراحل الروضة والمدارس التي تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة، كما رفع مستوى الشهادة الرسمية وتطوير المناهج، نفتح مع المفتش العام التربوي، فاتن جمعة، ملف علاقة المفتشية بوزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، كما المعوّقات التي تواجه المفتشية في عملها، وأنجع السبل للقيام بالدور الرقابي المنوط بها وتطوير الخطط المستقبلية.
وفقاً لقانون إنشاء التفتيش المركزي، يُعتبر المفتش العام التربوي رئيس إدارة المفتشية العامة التربوية وعضواً حكمياً في هيئة التفتيش المركزي. وإذا كان التفتيش المركزي هو أحد الأجهزة الرقابية التي تعمل على قمع وكبح كل فعل يُشكّل فساداً، فهو يعمل حكماً على مراقبة مدى تنفيذ الإدارة لمهامها وفقاً للقوانين والأنظمة النافذة. فهدفه الأساسي، طبعاً، يتمثّل بالحفاظ على المال العام والتحقّق من صحة التصرّف طبقاً للقوانين والأنظمة سارية المفعول.
ومن مهام المفتش العام التربوي الأساسية، مراقبة الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات بواسطة التفتيش على اختلاف أنواعه، السعي إلى تحسين أساليب العمل الإداري، إبداء المشورة للسلطات الإدارية عفواً أو بناء لطلبها، تنسيق الأعمال المشتركة بين عدة إدارات عامة، والقيام بالدراسات والتحقيقات والأعمال التي تكلّفه بها السلطات المعنيّة.
تحت سقف هذه المهام الأساسية المنصوص عنها، تقوم المفتشية العامة التربوية بأعمال الرقابة والإرشاد على جميع مؤسسات التعليم الرسمي ما قبل الجامعي بمختلف درجاته ومراحله وأنواعه وفروعه. إذ يراقب المفتشون التربويون بوجه خاص سير العمل فيها وكفاءة أفراد الهيئة التعليمية وكيفية قيامهم بواجباتهم ومدى تطبيق أنظمة الامتحانات الرسمية ومراقبة المرشدين التربويين.
ويبرز دور المفتشية العامة التربوية في ردع المخالفات والفساد من خلال التقارير التي تضعها والتحقيقات التي تجريها عفواً أو بناء لشكوى تردها أو تبعاً لتكليف خاص يصدر عن رئيس التفتيش المركزي، فتكون النتيجة إما توصيات أو عقوبات تأديبية بحق المخالفين. وتشمل رقابة المفتشية على المدارس والمعاهد والثانويات الرسمية، كافة الجوانب الإدارية والفنية والمالية وتهدف إلى التأكد من عدم ارتكاب المسؤولين مخالفات للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، والتحقّق من كل فعل أو تصرّف يشكل خطأً، سواء كان صادراً عن عمد أو إهمال أو تقصير، ينجم عنه صرف وتبديد للأموال العامة وتحقيق في المخالفات المالية.
لكن ماذا لو ثبت وجود اختلاس؟ «يُحال عندها المرتكب نتيجة التحقيق إلى النيابة العامة وديوان المحاسبة، ويمكن أن يحال أيضاً إلى الهيئة العليا للتأديب. وبنتيجة التحقيقات والتقارير التي تضعها المفتشية التربوية، يمكن إنزال عقوبات بحق المرتكب تتراوح بين التأديبية والمالية والجزائية تبعاً لطبيعة ونوع المخالفة المرتكبة. وقد نتج عن عدة تحقيقات إعادة أموال مختلسة من قِبَل بعض مدراء المدارس والثانويات إلى صناديق هذه المدارس»، كما تخبرنا جمعة.
رغم أن النصوص القانونية النافذة لم تُنظّم علاقة التفتيش التربوي بالمركز التربوي للبحوث والإنماء، إلا أن هذه العلاقة تبلورت من خلال الممارسة والنصوص التي تُحدّد صلاحية المفتشية العامة التربوية. عن ذلك تقول جمعة: «التفتيش التربوي على سبيل المثال، ومن خلال رقابته على تطبيق المناهج، أصبح يشارك في تعديل وتقليص المناهج في التعليم الرسمي. ومن خلال دوره في تقييم أفراد الهيئة التعليمية والمستوى التعليمي في التعليم الرسمي، أصبح يواكب أيضاً المشاريع التربوية والدورات التدريبية التي يقيمها المركز التربوي».
من جهة أخرى، يقوم التفتيش التربوي باقتراح مواضيع الدورات التدريبية التي يحتاجها الأساتذة والمعلمون في المدارس والثانويات الرسمية، وذلك بشكل سنوي وبناء على طلب المركز التربوي للبحوث والإنماء. مع الإشارة إلى أن صلاحية التفتيش التربوي تقتصر في كل ما سبق على الناحية التربوية الفنية فقط. أما الجانب المالي، فهو من اختصاص المفتشية العامة المالية، في حين أن النواحي الإدارية في الوزارة هي من اختصاص المفتشية العامة الإدارية.
نأتي إلى العلاقة بين التفتيش التربوي ووزارة التربية. وتلفت جمعة في هذا السياق إلى أن «التفتيش يراقب قانونية كل إجراء أو قرار إداري متّخذ من قِبَل الإدارة التربوية وله تأثير على سير العمل في المدارس والمعاهد والثانويات الرسمية أو حتى على الامتحانات الرسمية». وبنتيجة هذه الرقابة، يتّخذ التفتيش التربوي الإجراءات القانونية بحق كل من يخالف أو يقصّر أو يهمل في معرض أداء واجباته القانونية.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن ينتج عن دراسة قانونية القرارات الإدارية الصادرة عن وزارة التربية توصيات من المفتشية العامة بإعادة النظر بالقرارات تلك، لعدم قانونيتها ولما يسبّبه تنفيذها من هدر في المال العام أو التأثير على سير العمل في المدارس والثانويات والمعاهد الرسمية. مثال على ذلك قرارات نقل أفراد الهيئة التعليمية التي تتم أحياناً من مدارس وثانويات لا زالت بحاجة إلى خدماتهم واختصاصاتهم، مشكّلين بذلك فائضاً في الأماكن التي نُقلوا إليها. ولسدّ الحاجة الناتجة عن عملية النقل يتمّ اللجوء إلى التعاقد، ما يُعتبر هدراً للمال العام. هنا توصي المفتشية بإعادة النظر في القرار لعدم قانونيته.
تراجع في الإمكانيات ومطالبة في تفعيل الدور
تضمّ المفتشية التربوية حالياً 42 مفتشاً. وهو عدد قابل للتراجع سنوياً بسبب بلوغ العديد من المفتشين السن القانونية. وقد خصّ التشريع المفتشية العامة التربوية بميزة تحديد عدد المفتشين والمفتشين المعاونين سنوياً في الموازنة العامة، بحيث يتلاءم العدد مع حجم المهام نسبة إلى عدد المدارس والثانويات الرسمية ودور المعلمين. لكن جمعة تعلّق: «إلا أن هذه الميزة تبقى حبراً على ورق في ظل عدم إجراء مباريات دورية لتعيين مفتشين جدد. فهي بالتالي ميزة في القانون لا تظهر مفاعيلها على أرض الواقع».
ثم نسأل عن أنجع السبل لتمكين التفتيش التربوي من القيام بدوره، فتجيب جمعة دون تردّد: «جعل المفتشية العامة التربوية مستقلة في اتخاذ القرارات مباشرة، ذلك أن إجراء أي تحقيق من قِبَل المفتشية ينتج عنه اقتراح بالعقوبة من قِبَل المفتشين والمفتش العام التربوي، ثم يحال الملف إلى رئيس التفتيش المركزي لعرضه على هيئة التفتيش لإصدار القرار الملائم بشأنه». وبالرغم من أن نص المادة 19 من المرسوم الاشتراعي رقم 115/59 يقضي بأن يعرض رئيس التفتيش التقارير على الهيئة خلال شهر من تاريخ رفعها له، إلا أن كثافة الملفات المحالة إليه من كافة المفتشيات العامة واجتماع الهيئة مرّتين في الشهر كحد أقصى، إنما يؤديان إلى إطالة أمد البت في الملفات التربوية، في حين أن هذه الأخيرة تستدعي السرعة في بتّها.
والحال أن التأخير في البت يمكن أن يؤثر على سير العمل في المدارس والثانويات والمعاهد الرسمية كما على معنويات المفتش أو المفتشين الذين أعدّوا الملفات. ويمكن أن يؤدي أيضاً إلى بلوغ أحد المؤاخذين السن القانونية وإفلاته بالتالي من العقوبة. «لذلك نقترح دائماً بأن يكون لكل مفتشية عامة هيئة مستقلة تبتّ بالملفات بنفسها وتكون صاحبة صلاحية واختصاص، على أن يبقى للهيئة الأساسية صلاحية البت بطلبات إعادة النظر فقط، ما يؤمّن السرعة في معالجة كافة الملفات»، كما تطالب جمعة.
العوائق وكيفية تجاوزها
خلال قيامه بواجبه الرقابي، يواجه التفتيش التربوي عدة معوّقات. ومن أهمّها: نقص في الموارد البشرية مقارنة مع المهام الملقاة على عاتقه نظراً لتزايد عدد المدارس والثانويات والمعاهد الخاضعة لرقابته. هذا إضافة إلى عدم ضمان الرواتب والتعويضات التي تتناسب مع نوعية العمل والصلاحيات المنوطة بالمفتشين. «من هنا ضرورة ضمان التناسب والمواءمة بين الأعباء الملقاة على عاتق المفتشين والحقوق المقرّرة لهم، على الأقل لتحفيزهم على أداء مهامم الرقابية على أحسن وجه»، من وجهة نظر جمعة.
ومن المعوّقات أيضاً عدم تجاوب الإدارة التربوية أحياناً لناحية إيداع التفتيش التربوي بعض المعلومات والمستندات اللازمة لإنجاز بعض التحقيقات أو الدراسات من قِبَله. إذ، وبما أن أهداف التفتيش المركزي هي نفسها أهداف الإدارة، من البديهي تأمين التعاون والتنسيق وقيام كل جهة بما هو منوط بها. غير أنه يلاحَظ عدم التزام الإدارة دائماً بتوصيات التفتيش، ما يعيق الوصول إلى الأهداف المرجوة من الأعمال الرقابية. وتضيف جمعة: «إذا كانت توصيات التفتيش غير ملزمة قانوناً للإدارة إلا أنها يجب أن تكون على الأقل ملزمة أدبياً. فإضافة إلى عدم التزام الإدارة بهذه التوصيات، ثمة شيء من المرارة التي يخلّفها لدى المفتشين شعورهم بأن جهود إعداد التقارير ووضع التوصيات التوجيهية لم تحظَ باهتمام والتزام الإدارة بها».
ومن الأسباب الإضافية التي تعيق تحقيق الأهداف، عدم تحديث أنظمة التفتيش لمواكبة المستجدات الضخمة الطارئة على قطاع التربية، وعدم قيام الإدارة بشكل منتظم بأعمال الرقابة التسلسلية، وإلقاء كامل المسؤولية على عاتق التفتيش في ظل شح الموارد البشرية والمادية واللوجستية المتاحة أمام هذا الأخير.
خطط تطوير في ظل غياب مصادر التمويل
«لا موازنة مستقلة أو أي مصادر تمويل خارجية للمفتشية العامة التربوية»، بحسب جمعة التي تتابع أن الأخيرة «تؤمّن مستلزماتها من خلال طلب خطي يُقدَّم الى رئيس التفتيش المركزي كونه المسؤول قانوناً عن عقد وصرف النفقات في التفتيش المركزي». وبالرغم من أن قانون المحاسبة العمومية يعطي كل مدير عام في إدارات الدولة حق عقد النفقة ضمن حدود معيّنة، إلا أن هذا الحق لا يشمل صلاحية المفتش العام في التفتيش المركزي.
أما بالنسبة لخطط التطوير، فهي تندرج ضمن الاستراتيجية العامة لتطوير جهاز التفتيش المركزي بأكمله والتي يتعيّن على هيئة التفتيش أن تقرّها. وتشير جمعة في هذا الإطار: «ما نسعى للقيام به مستقبلاً هو العمل على تعزيز دور المفتشية العامة التربوية وتوسيع صلاحياتها القانونية في عدة مجالات، ما يساهم في التأثير بشكل إيجابي على مستوى التعليم الرسمي. هذا إضافة إلى السعي لتضمين الإطار الرقابي للمفتشية العامة التربوية أساليب حديثة لكشف الأخطاء والانحرافات والعمل السريع على معالجتها. هذا دون إغفال العمل على تدعيم الإمكانيات المادية والبشرية اللازمة والكافية لقيام المفتشية بدورها بشكل فعّال».