تسعة وعشرون عامًا على إنتهاء الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان على مدى خمسة عشر عامًا. تسعة وعشرون عامًا وما زال لبنان يعيش في حالة من عدم الإستقرار السياسي والفساد المُستشري ونسب الفقر المُرتفعة. الخدمات العامة تُعتبر من الأسوأ عالميًا مع مالية عامة تُهدّد الكيان اللبناني.
شرارة الإحتجاجات هي ضريبة الـ 0.2 دولار أميركي على الواتساب، لكن الأسباب الحقيقية تبقى إقتصادية وإجتماعية ومعيشية ودفعت بأعداد كبيرة من اللبنانيين إلى الشوارع في مشهد يُعبّر عن الوضع العام المتردّي!
} الصراع المفتوح }
الصراع السياسي على السلّطة والمفتوح منذ إنتهاء الحرب الأهلية، أخذ أبعادًا كبيرة حيث أصبحت الدولة صورة عن الأحزاب السياسية إذ نجد في كل الوزارات والمؤسسات موظّفين محسوبين على الأحزاب بشكلٍ كامل وولاؤهم لهذه الأحزاب أكبر من ولائهم للدوّلة التي تدّفع أجورهم.
التعطيل السياسي أصبح شبه طبيعي في بلاد الأرز وتشكيل الحكومات أصبح مخاضاً صعباً. أخر الأمثلة حكومة الرئيس الحريري المُستقيلة والتي أخذت 9 أشهر لتشكيلها. وإذا ما إستطاعت القوى السياسية تشكيل حكومة، يتمّ تعطيلها من خلال مشاكل مُعظمها تصفية حسابات بين هذه القوى. فعهد الرئيس ميشال عون الذي بدأ منذ ثلاثة أعوام شهد ما يُقارب العام ونصف تعطيلاً وخلافات بين الأفرقاء منعت الحكومات من القيام بمهامها كما يجب. ولا يُساعد الترابط العضوي مع الخارج في تحسين الوضع، لا بل على العكس كل توتّر إقليمي أو دولي ينعكس في الحياة السياسية اللبنانية على شكل تعطيل وأحيانًا حوادث أمّنية.
} الفساد }
عدم الإستقرار السياسي هذا فتح الباب أمام صراع مفتوح حاليًا وحجب الأنظار عن الفساد المُستشري الذي ينهش جسم الدوّلة والكيان اللبناني. وتنتظر القوى السياسية تشكيل حكومة جديدة لمحاربة هذا الفساد الذي قضى على كلّ مقومات الدولة المالية وحتى الإقتصادية. أيام حرجة يمرّ بها لبنان وينتظر دعماً مالياً خارجياً علّه يأتي من مُنقذ أجنبي أو خليجي. لكن كيف لهذا المنقذ أن يقتنع بمساعدة لبنان وهو يعلم أن هناك فساداً يفتك بمالية الدولة مع قطاع كهرباء يُكلف الخزينة ما يقارب الملياري دولار أميركي وجمارك تحرم خزينة الدولة أكثر من مليار ونصف المليار دولار أميركي؟ كيف لهذا المنقذ أن يقتنع وهو يعرف أننا نعيش في حال ترف تمتنع عنه أغنى دول العالم؟ 14 مليار ليرة لبنانية لأشغال حائط شكّا الذي إنهار تحت وطأة الأمطار، و15 مليار ليرة لبنانية إيجار مبنى واحد في وسط بيروت! وماذا نقول عن قطاع عام أصبح يحوي أكثر من 300 ألف موظّف مع توظيف عشوائي ضرب المالية العامة وأخذت معه الحكومات المتعاقبة بالإستدانة لتغطية الإنفاق الناتج عن الفساد المُستشري إلى أن وصلنا إلى مستوى أصبحت معه الإستدانة مُكلفة جدًا.
} الخنق الإقتصادي }
وكأن كلّ هذا لا يكفي، أتت الأزمة الأخيرة لتفرض عملية خنق إقتصادي على المواطن من ناحية المدخول ومن ناحية توافر السلع بأسعار مقبولة. وبما أن الفساد جعل نموذج الإقتصاد اللبناني مبنياً على الإستيراد المُحتكر من بعض أصحاب النفوذ، أبرزت الأزمة الحالية مُشكلة تأمين دولار الإستيراد هذا. وبما أن موجودات المصارف ومصرف لبنان من الدولارات لم تعد تتلقى تدفقات خارجية منذ شهر آب، لذا عمد القطاع المصرفي إلى لجم السيولة بالدولار الأميركي مما دفع المستوردين إلى التوجّه إلى الصيارفة لتأمين حاجتهم من دولار الإستيراد وتحميل كلفة هذا الدولار على المستهلك.
العديد من الشركات عمدت إلى صرف موظفيها أو تخفيض أجورهم الشهرية. وهذا الأمر دفع إلى خفض القدرة الشرائية للمواطن ومعه الإستهلاك وبالتالي الناتج المحلّي الإجمالي الذي من المتوقع أن ينكمش بنسبة 0.5% هذا العام! هذا الإنكماش سينعكس على الواقع الإجتماعي من خلال زيادة نسبة الفقر وأكثر من ذلك إزدياد الجريمة.
} تدخّل الدولة! }
البقاء على هذا الحال يعني أننا قادمون على كارثة قرّبت الأحداث الأخيرة من تاريخ حصولها! لا نقول هذا للتهويل، لكن هناك مُشكلة حقيقية ويتوجّب على الدولة مُعالجتها. وليس بالمفاجئ أن يكون أولى المعالجات تشكيل حكومة في أسرع وقت لتتمكن من السيطرة على هذه الفوضى العارمة.
المصارف مقفلة منذ شهر تقربيًا وهذا الأمر يعني أن التجار يلجأون إلى الصيارفة لشراء الدولارات. لكن السؤال المطروح، كيف يقوم هؤلاء التجار بدفع ثمن البضائع والسلع التي يستوردونها؟ هناك عدة سيناريوهات مُمكنة منها ما هو طبيعي ومنها ما هو غير طبيعي. فقد تكون المصارف لا تزال تُسيّر أعمال التجار حتى ولو كانت أبوابها مُقفلة شرط أن يأتي التجار بالدولارات، أو من الممكن أن يكون التجار يعمدون إلى نقل الأموال نقدًا… على كلٍ هناك فلتان واضح لحركة تنقلّ الدولار الأميركي خارج لبنان وبشكل غير مسبوق ويتوجب على السلطات التنبّه إلى هذا الأمر لأن الإستمرار في هذه الحال هو إستنزاف لدولارات السوق اللبناني!
أيضًا، من المفروض أن بعض السلع المنتجة محليًا والتي لا تحتاج إلى مواد أولية من الخارج أو أن نسبة المواد الأولية المستوردة ضئيلة في الكلفة، تُحافظ على ثبات أسعارها. وهنا نطرح السؤال، لماذا بعض هذه السلع والبضائع اللبنانية إرتفعت أسعارها؟ ألا يتوجب على الدولة أن تلاحق المخالفين عملاً بالمرسوم الإشتراعي 73/83.
من الواضح أن الشق السياسي والأمني والإحتجاجات التي تجوب المناطق اللبنانية، حجبت رؤية الدولة عن المشاكل الإقتصادية.
} ماذا بعد؟ }
إننا نعتقد أن نظام المحاصصة الذي أرساه دستور الطائف وإتفاق الدوحة، أصبح عبئًا ثقيلاً على الكيان اللبناني والإستمرار على هذا النحو سيؤدّي إلى إنهيار الكيان اللبناني في فترة لن تكون بعيدة. وبالتالي نرى أن عدم تطبيق إتفاق الطائف سمح للقوى السياسية بتناهش الحصص في الدولة (على كل الأصعدة) وأتى إتفاق الدوحة ليُعطي حصانة للفساد مما زاد اللاعدالة الإجتماعية وحرم الأطراف من الإنماء وإستفحل في تصدير شبابنا إلى الخارج.