تختلف الأولويّات بحسب اختلاف المصالح والأهداف، لأنّ الارتباط هو بالمشروع. وهنا نقطة الاختلاف الجوهريّة. لذلك أيّ جلسة نيابية قد تنعقد لمناقشة أيّ عريضة اتّهامية بحقّ أيّ وزير أو مسؤول، يراها فريق «سلطة إيران» في لبنان جلسة دستوريّة وجوهريّة، فيما مقاربة الموضوع من حيث الأولويّات الوجوديّة للجمهوريّة برمّتها والتي يجريها الفريق «السيادي» تدفع إلى القول بأنّ الأولويّة اليوم هي لإنهاء حالة الشغور في السلطة.
وظيفة الهيئة العامّة اليوم هي وظيفة انتخابيّة وليست تشريعيّة بحسب المادّة 75 من الدّستور التي تقول: «إنّ المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهوريّة يعتبر هيئة انتخابيّة لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدّولة دون مناقشة أو أيّ عمل آخر». من هذا المبدأ الدّستوري لا يمكن التّحايل على ما نصّ عليه الدّستور بشكل واضح. مع الأخذ بالاعتبار أنّ مبدأ المحاسبة هو من أسمى المبادئ الدّستوريّة، لكن لا يمكن الاجتهاد على حساب وجوديّة الدّولة.
وهذه الوجوديّة تُستَكمَل باستكمال السلطة السياسيّة بالكامل، حيث لا يمكن لدولة أن تستمرّ من دون رأس السلطة الاجرائيّة فيها. لكن على ما يبدو أنّ نيّة «سلطة إيران» في لبنان هي تفريغ ما تبقّى من الدّولة اللبنانيّة من الوجوديّة التي تضمن استقرارها على الاستمرار. لذلك يعمل هذا الفريق ليل نهار متّخذًا من التعطيل الذي لم يجزْهُ الدّستور كحقّ شرعي ليشلّ المؤسّسات، بعدما بات متعذّراً عليه تقويضها نتيجة لما أفرزته الانتخابات النيابيّة، إذ استطاع النّاخب اللبناني أن ينزع الأكثريّة الفعليّة من هذا الفريق، ولو أنّها لم تترجم عمليّاً في المكان الذي أصبحت فيه.
أمّا بالنسبة إلى الجلسات الحكومية التي من الممكن أن تعقد، فلا أولويّة تعلو فوق أولويّة انتظام المؤسّسات. مع العلم أنّ الحاجة الملحّة التي تفترض استمرار الحياة الطبيعيّة للنّاس بشكل عام وحدها، تفرض انعقاد أي جلسة حكوميّة ليُصَار إلى إقرار ما هو وجوديّ حصراً. أمّا أن تعقد الحكومة وعلى جدول أعمالها مواد لا ترتبط بهذه المسألة فهذا ضرب من الالتفاف على دستوريّة سير العمل لأهداف سياسيّة. وهذا ما أقدمت عليه هذه الحكومة بغطاء من بعض المتبجّحين بدستوريّة انعقادها حيث أمّن هؤلاء نصاب انعقادها، ليعترضوا بعد ذلك على طريقة انعقادها. ولكأنّ النّاس بهذه البساطة ليستمرّوا بالضحك عليهم. بغضّ النّظر عن أنّ هؤلاء أنفسهم قد نجحوا بالضحك على كلّ النّاس بعض الوقت، لكن فاتهم أنّهم حتماً لن ينجحوا بالضحك على كلّ النّاس كلّ الوقت.
«مرتا مرتا إنّك تهتمين بأمور كثيرة وتضطربين! إنّما المطلوب واحد!». هذه حال الحريصين على استمرار العمل المؤسّساتي. والفارق هنا بين انتظامه واستمراره بالشكل المشوّه خدمة للمصلحة السياسيّة. لقد صار جليّاً أنّ الأهداف مرتبطة بالمشاريع. فـ»سلطة إيران» في لبنان هدفها اتّضح اليوم ولم يعد يحتمل أي التباس، يريد هؤلاء هدم الهيكل أو تقويضه بالمطلق. وفي الحالتين، إمّا أن تكون الدّولة دولتهم على قاعدة لا إشراك في السلطة، وإمّا يكون هذا الإشراك محكوماً بأدنى قواعد الإخضاع التي تتمظهر بخلافات شكليّة بعضهم بين بعض؛ كما يحاول فريق حالة الرئيس السابق ميشال عون – رئيس «التيار الوطنيّ الحرّ» جبران باسيل الإيحاء بالخلاف مع «حزب الله» فيما الكلّ بات يعلم كيفيّة الإخضاع التي تمارسها «المنظمة المسلّحة» على المنظومة الفاسدة. فكلاهما بخدمة بعضهما البعض. ولا يمكن الفصل بينهما إلا إذا تمّ إسقاط هذا التكليف الإنتخابي من قبل النّاخب اللبناني الذي منح هؤلاء هذا الحقّ. وحتّى هذه الساعة يبدو ذلك صعباً لأنّ النّاس ما زالت تعطي هؤلاء هذا الحقّ استناداً إلى أحكام قَبْلِيَّةٍ على مَن يواجههم في السلطة أو انطلاقاً من أحكام أيديولوجيّة وتكاليف شرعيّة.
الخلاف الجوهري إذاً على الأولويّات الوجوديّة وما لم يرَ هؤلاء أنّ الأولويّة هي في انتظام العمل المؤسّساتي للحفاظ على جوهر وجود الدّولة سنبقى حتماً في دوّامة الشغور. فهؤلاء ينتظرون شيئاً ما لا يعرفون ما هو. يهيمون تائهين وتوّهوا الوطن في تيههم. أمّا الذين استقرّوا حتّى الساعة في ممارستهم حقّهم الدّستوري الذي يترجم في انتخاب رئيس الجمهوريّة بغضّ النّظر عن اسم المرشّح، فهذا الفريق بالذات سينجح بإيصال مشروعه إلى الحكم لأنّه يسير وفق المسار الطبيعي للتّاريخ. فبنهاية المطاف أن تشكّل فريقاً سياسيّاً يمارس السياسة بمواربة شيء، وأن تكون حركة تاريخيّة تحاكي المسار الطبيعي للتّاريخ شيء آخر. فهل ستستقيم الأولويّات تحت ضغط الرّغيف والدّواء والدّولار للوصول إلى برّ الأمان؟ أم أنّنا سائرون نحو الإرتطام الكبير تحقيقاً للأجندة الأيديولوجيّة الخارجيّة؟