IMLebanon

تأكّل المؤسّسات وتأكّل السرديّات

 

يصعب شرح الوضعية السياسية، التي استقرّ عليها البلد منذ أشهر ولا يبدو أنّها منتهية قريباً.

فمن جهة، هناك حكومة تشارك فيها كل الأطراف الممثلة في البرلمان، باستثناء «القوات اللبنانية». فهي حكومة ائتلافية تتمثّل فيها الأطراف الأساسية المتنازعة في ما بينها على القضايا السياديّة. لكنها في الوقت نفسه حكومة تتابع جلساتها بانتظام، وهذه ندرة قلّما أتيحت للحكومات الائتلافية السابقة بما فيها الأقل تمثيلاً للألوان السياسية المتباينة. لأوّل مرّة نحن أمام حكومة ائتلافية تستمرّ كل هذه الأشهر ولا تشهد أزمات حكوميّة حادّة بين أطرافها. 

في العادة، هذه الأزمات تشكّل مادة الخبر السياسي المحلّي. الآن، غيابها، مع وجود حكومة، وحكومة ائتلافية بين متنازعين على الضوابط السيادية نفسها، هي الخبر. طبعاً، مع الاستدراك المتنبّه الى مفارقة ان بعض المشاركين في الحكومة يغيب عن بالهم أنّهم داخلها، كما لو كانت «الحكومة هي الآخر»، عندما يكونون بحاجة الى المزايدة في موضوعات أو لحظات بعينها، على «الحكوميين الآخرين». 

في الوقت نفسه، هذا المناخ الائتلافي، المختلف حول الأساسيات، والمسيّر لعمل السلطة الاجرائية بما تيسّر، ودون أزمات حكومية حادة، انما يتزامن مع استفحال الشغور الرئاسي.

اذاً هو ائتلاف حكومي مريح نسبياً بين المتنازعين، وشغور رئاسي مستفحل زمنياً من دون ان يمنع عدم التئام المجلس لانتخاب الرئيس انفراط عقده كمجلس بانتهاء ولايته. هذا الوضع تعزّز بشكل تراكمي في الأشهر الماضية ولا يلوح في الأفق ما من شأنه تبديله بشكل كبير في الفترة المقبلة. 

في الوقت نفسه، أظهرت الأشهر الماضية، أننا ابتعدنا كثيراً عن زمن حيوية السرديات التي كانت تجابه بعضها بعضاً في السنوات الماضية. من الطبيعي تماماً ان كل واحد يرى أن سردية الآخر تهافتت اكثر من سرديته هو. لكن من الذي يستطيع أن يعيد على المسامع سردية كانت تروج قبل سنوات من دون أن يشعر، إن لم يكن بالالتباس، فبالرتابة؟ لا يعني هذا التأكّل في السرديات السياسية المحلية الاستقطابية، أنّ الذات المنتفخة لهذا الطرف أو ذاك ستعود الى جادة السويّة والسواسية عند مقاربة شؤون البلد. لكنه على الأقل، يفتح المجال لرؤية التفسّخ.

من بمستطاعه اليوم أن يأخذ فعلاً على محمل الجدّ أنّ في لبنان «مجتمعات» واحدة على حق والثانية على ضلالة؟ واحدة مدينة فاضلة والأخرى تعيث فساداً في الأرض؟ هل يعني ذلك إبدال عراضة السرديات المتواجهة بالنسبية الشاملة التي توزّع صكوك الغفران على الجميع؟ أبداً. تفسّخ السرديات وتهلهلها لا يعني أبداً تساويها.

فالسردية التي ترى في لبنان كياناً وطنياً يحق له الحياة، مثلما لكل الكيانات الوطنية الأخرى، وبشكل لا تهيمن فيه ملّة على أخرى، ولا تنكر فيه التعددية بين الملل، هي سردية من الضرورة استردادها من حضن المبالغات الأسطوريّة، والتوظيفات المتنكّرة لمصالح العدد الأكبر من الناس، لكنها تبقى السردية التي يمكن اتخاذها كمسودة لنقاش جديد، لتفكير جديد، في حين أن السردية التي عندها مشكلة دفينة مع هذه الكيانية، أو هي غير قادرة على تجاوز زمن الصراع بين الملل على من يحتل موقع الصدارة والهيمنة، أو التي تنتقي من ذاكرة الحرب أموراً من دون أمور، أو التي تجعل الخلاص في شخص دون سواه، وفي عقيدة دون سواها، فهذه سرديات من الصعب تماماً الاستفادة منها كمسودّات من بعد تأكّلها.

هذه الخلفية «الثقافية» للصراع، أو الاحتباس، السياسي، وبقدر ما تدفع نحو أهمية إسناد كل بادرة حوارية، سواء كانت ذات همّ موضعي، كتأمين مخرج توافقي بديلاً عن الشغور الرئاسي، أو غير ذلك، فإنّها تلفت في الوقت نفسه الى ما يجمع (تأكّل جميع السرديات)، وما يفرّق (صلاحية سرديات دون أخرى في أن تكون مسودات للإصلاح والسلم).