خروج الجيش السوري لم يحقق الدولة
المؤسسات تتهاوى على واقع الطوائف والفساد
مرت امس الذكرى الحادية عشرة على خروج الجيش السوري من لبنان، من دون اي احتفالية او ضجيج. فالطبقة السياسية منهمكة في انتخابات بلدية واختيارية، ولا وقت لديها لقضايا «صغيرة» من نوع تفعيل الدولة ومؤسساتها وانتظام الحياة السياسية فيها، اضافة الى «تفاصيل» اخرى كالوضع الاقتصادي والامني وواقع الحال الاجتماعي.
في السنوات الاولى التي تلت خروج الجيش السوري من لبنان، كان العذر الابرز لنكبة الحياة السياسية وعقمها، ان «الوصاية السورية أرست قواعد وسلوكيات وافكارا، وفرضت موازين قوى تحتاج سنوات الى اعادة تصويبها وتحسينها».
انتظر اللبنانيون سنة تلو اخرى. توالت السنون حتى بلغت احدى عشرة سنة، فماذا اكتشفوا وما الذي تغيّر؟
صار الفساد وطنيا وعلنيا. لم تعد شائعات الفساد تطال ضباطا ومسؤولين سوريين. اليوم يقف المسؤولون والزعماء اللبنانيون ليتبادلوا تهم السرقة وتناتش الحصص، ولا من يحاكم او يحاسب او يستقيل. يعترف الزعيم بأنه فاسد ومرتكب ومتجاوز للقوانين، وتتحول السلطة وسيلة ومعبرا للخروج من الازمات المالية، ولا يخاف مسؤول من محاسبة او محاكمة.
يهيمن الفراغ على قصر بعبدا. وبعد أن كانت كلمة سوريا تعيّن رئيسا او تمدد له على غفلة منه ومن اللبنانيين، تناسى العالم رئاسة الجمهورية التي صارت كاليتيم على مائدة اللئام، لا اهتمام ولا سؤال ولا حتى نظرة.
اما اللبنانيون الذين عانوا من تعيينات النظام السوري الانتخابية ومن تزكيتهم لنواب وإلغائهم لنيابة آخرين، فقد كانوا يطمحون الى انتخابات نيابية حرّة ونزيهة وتعبّر عن تطلعات أجيال تحررت من «الوجود» او «الوصاية» او «الاحتلال السوري»، وفق الجهة التي تصف وتحدد. اقصى ما ناله هؤلاء، بعد الخروج السوري، انتخابات بنكهات طائفية متنوعة، أو بمحادل تلغي اي صوت مختلف، وصولا الى إلغاء الانتخابات نفسها عند استحقاقها الاخير.
ما الذي تغيّر بعد خروج الجيش السوري؟
نزعت الطائفية كل قفازاتها ونزلت الى الحلبة بكفوفها العارية. خطاب الاحزاب طائفي كما سلوكياتها وخياراتها وحساباتها وانحيازاتها. تعذر على المراجع الدينية عقد قمة روحية تحسساً من حسابات طائفية ـ سياسية. حتى المجتمع المدني خرقته لوثة الطائفية. بقي قلة من الافراد الحالمين يناضلون ويحاولون، ويندرجون تحت بند الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
تعمّق الاختلاف والخلاف بين اللبنانيين حتى كادوا يتحولون الى مجتمعات متعددة لا مشتركات بينها، لا في سلم القيم والاولويات ولا في الاهتمامات ولا حتى في السلوكيات الاجتماعية. وبعد ان كان الاتهام موجها الى «السوري» في تعزيز الخلافات وتأجيج الحساسيات وشق الصفوف بين اللبنانيين، يتفنن هؤلاء في ابتكار ما يزيد من المسافات بينهم، ويوقظ المكبوت من صراعاتهم التي ختموها على زغل وتكاذب. وما حصل بالامس في الجامعة الاميركية في بيروت، على محدوديته، بين طلاب «الكتائب» و«القوات اللبنانية» و«الحزب القومي» يعطي مثالا على ذلك.
أما الشراكة الوطنية ـ في النفوس قبل النصوص ـ وما يتفرع عنها من توازن ومناصفة حقيقية، فتتراجع أمام جشع الطوائف والاحزاب، التي تبدو كمن يتحين الفرص للانقضاض على حصة الآخر.
كان خروج الجيش السوري من لبنان حلما لقسم غير قليل من اللبنانيين. افترض هؤلاء أن زمن الحرية والتحرر سينقلهم الى الدولة المشتهاة. جاءت الصدمة مؤلمة على كل المستويات.
يصدف ان نيسان يحمل ذكرى اخرى، وحلما آخر ببناء الدولة الحديثة، رغم بعض الملاحظات. ففي 25 منه عام 1973 توفي الرئيس فؤاد شهاب. توفي خائفا على امرين كما أَسَرَّ لاحد مرافقيه قائلا: «ارى غيوما سوداء فوق لبنان.. هذه المرة لن يكون لا غالب ولا مغلوب، بل مغلوبان كبيران: الوطن والسيادة».
تحققت مخاوف شهاب، فهل من يحقق امنيته بدولة قوية حديثة؟ دولة تحاكي احلام جيل نزل الى الساحات مطالبا بخروج الجيش السوري من لبنان آملا باستعادة الدولة المدنية الديموقراطية العادلة؟