«إن الزرازير لمّا قام قائمها
توهّمت أنها صارت شواهينا
ذلّوا بأسيافنا طول الزمان فمذ
تحكّموا أظهروا أحقادهم فينا
كالصلّ يظهر ليناً عند ملمسه
حتى يصادف في الأعضاء تمكينا
يطوي لنا الغدر في نصح يشير به
ويمزج السمّ في شهد ويسقينا»
(صفي الدين الحلّي)
قد تكون الإمبراطورية الأخمينية التي ظهرت في القرن السادس ق.م. وكان أول اباطرتها «قورش الثاني»، أولى الإمبراطوريات في التاريخ المعروف. وقد عرفت شعوبها بالفرس على أساس أنها تعتمد على الغزو في توسعها، لكنها أيضاً لم تغزُ فقط، بل أرست حكماً طويل الأمد على المناطق التي احتلتها. وتؤكد المراجع التاريخية أن «داريوس الأول»، حفيد قورش، عندما هاجم المدن الإغريقية، كان جيشه الجرار يضم شعوباً متعددة من المناطق التي احتلتها، وكانت بين تلك القوات مجموعة من النخبة سُميت «الخالدون»، وهي كانت الأكثر تدريباً وتسليحاً، وكانت عادة تعود غالبةً في المعارك التي تخوضها.
فكرة المواطنة، أو الإنتماء إلى أمّة، لم يكن مطروحاً في تلك الحقبة، فقد كان الجميع في خدمة مشروع امبراطور مقدّس نصّب نفسه إلهاً على العباد. أما فكرة المواطنة فلم تطرح الا بعد بضعة قرون عندما اصبح الكثيرون من سكان المستعمرات الرومانية مواطنين متساوين، بغض النظر عن عرقهم أو لونهم.
ما لنا ولهذا الحديث الآن، ولكن الواضح اليوم هو أن الإمبراطورية الفارسية المتجددة تمكنت من تحويل الهوية القومية إلى هوية طائفية، وأصبحت طهران روما الجديدة، بالنسبة لعشرات الملايين من الشيعة الموجودين في كيانات محيطة بإيران. لكن هذه الكيانات الهشّة فشلت في إرساء قواعد دول فيها مواطنون أحرار، يختلفون فيما بينهم على مشاريع اقتصادية واجتماعية وإنسانية، ويتنافسون على وسائل تحقيق تطلعاتهم الوطنية إلى حد الشجار، ولكن يبقى ولاؤهم للسيادة الوطنية خطاً أحمر لا يقبل أن يتخطاه أي منهم.
بقيت تلك الكيانات عشائرية أولاً، ومذهبيةً عندما تدعو الحاجة، وبقي منطق الغزوات والسلب والسبي طاغياً على تصرفات سكانها وكأن الزمن تجمّد على حقبة القرون الوسطى.
دخلت إيران ولاية الفقيه من باب فشل الكيانات الوطنية في بلادنا، كما دخلت قبلها ومعها قوى أخرى لم تبذل جهداً كبيراً لتفتيت ما هو مُفتّت أصلاً، وكل ما حدث هو أن منظومة طغيان الديكتاتوريات رُفع الغطاء عنها، فانهارت منظومة القمع التي «وحّدت» تلك الكيانات التي كانت قائمة على إكراه القتل والسجن والإقصاء.
لكن إيران الولي الفقيه التي أعلنت منذ بضع سنوات أنها رفعت علمها على أربع عواصم عربية، وأن العراق عاد ليكون كما كان أيام كسرى قلب الإمبراطورية، وجدت نفسها تتنافس بشكل دموي مع قوى إقليمية أخرى لديها الأحلام نفسها، وقوى دولية ترى في تنافس الأحلام الإقليمية مكسباً استراتيجياً لها عند تطاحن وتنافس مجموعات تعتبرها كلها في خانة الأعداء.
المهم اليوم هو أن طموح إيران الإمبراطوري عاد ليتعامل مع الواقع بشكل براغماتي، فبعد تخفيف لهجة العداء مع أميركا، عاد وقبِل بتقاسم تركة «الشرق الأوسط المريض» في سوريا، وقبل بالتالي استبدال ابتلاعها بأكملها بالسعى لتأمين طريق برّي آمن نحو المستعمرة اللبنانية. ما نراه من انغماس شبه انتحاري لـ«حزب الله» منذ ثلاث سنوات في الغوطتين ما هو الا مسعى لضمان تواصل بري عبر دمشق والعراق إلى إيران. «حزب الله» اليوم هو فرقة «الخالدون» في خدمة امبراطور يحمل القداسة ذاتها التي حملها قورش.. وأرتحششتا وأنوشروان.
(❊) عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»