تحتاج معظم الجماعات والأحزاب، لكي تكتمل صورتها ومشروعها، إلى أناس ينتمون إلى مختلف الاتجاهات والأديان والمَشارب. ففيها يلتقي الأغنياء والفقراء، المثقفون والمتعلمون، العاملون والحرفيون، المحامون والمهندسون، الخائفون والشجعان… هي تحتاجهم وتسعى اليهم لكي يطلق عليها رسمياً لقب «حزب» يمثّل مجموعة منظمة من الأفراد يمتلكون أفكاراً سياسية متشابهة.
فالحزب، وبعيداً من التنظيم التقليدي الضَيّق، هو «فسيفساء» رائعة الشكل والألوان والمعطيات. وتكمن روعتها الأكبر في وضع كل حجر في موقعه الطبيعي. ومن المعلوم بأنه في حال فقَد الحزب عنصراً من عناصره الأساسية، سواء على الصعيد البشري أو بتركيبته الديموقراطية الحقيقية، يضربه تشوّه ويصبح حزباً مشلولاً ومخلوقاً غريباً.
والأسوأ من ذلك حينما «تُلَخبِط» السلطة الحزبية بإرادتها أو بإرادة تابعيها مواقع الأشخاص والأدوار، فيتحوّل الحزب عندها الى كائن عجيب يعيش بمساعدة طبية تسحب منه حيويته تحت حجّة إبقاء الحياة تنبض في عروقه، لكي يستفيد من مرضه أعداؤه وخصومه قبل مؤيّديه.
ويزيد الخطر على المجموعة إذا كان هذا التبدّل يقع في مراكز تعتبر من صمّامات الأمان في المحافظة على الحرية والتجدّد وتداول السلطة. خصوصاً إذا كان الشخص أو «الكادر» المعنيّ يحاول أن يصوّر نفسه على أنه مثقف، أو أنّ صورته لدى رفاقه والرأي العام تعكس صورة رجل علم ومعرفة، ودائماً ما كان يحاول أن يترك الانطباع على أنه يؤدي دوراً في الحفاظ داخل حزبه،على الأفكار العالمية من حرية الفرد وحقوقه وحق الاختلاف وغيرها من المبادئ التي على الأحزاب تحقيقها في مجتمعاتنا. ويأخذ بصدره الدفاع عن كل مظلوم رفضت فكرته أو رمي رأيه في سلّة نفايات السلطة.
فإذا كان جميع الملتزمين في قضية يُمكن وضعهم في كفّة عند الكلام عن دورهم ووظائفهم، إلّا أنّ وظيفة المثقف أو المفكر في هذه الجماعة لا يمكن إلّا أن نضعها في كفة أخرى، فهو ملتزم فريد، من واجبه حتى في التزامه أن يمشي بعكس التيار السائد، منتقداً ومصحّحاً كل تقصير في أداء السطة تجاه المحازبين.
ومن واجبه الكلام الصريح والمباح عن كل أمر مخالف للقيم، مسكوت عنه في حزبه وجماعته، وعليه أن يكون مستقلاً لا يمكن النيل من استقلاله لأنه لا يرتبط بأحد بمعنى الارتباط الوظيفي.
ومن غير الجائز له ومن غير المفيد، أن يُمثل دور السلطة أو أن يتمثّل بها أو أن يتحمّل مسؤولية تَولّيه إيّاها خصوصاً إذا كانت المسؤولية مُبطّنة تهدف، وباسم النظام، إلى القضاء على معارضيها، خصوصاً إذا كانت هذه المعارضة حدودها الكلام للتنبيه من الأخطاء والخطايا التي تُرتكب من السلطات العليا بحق ملتزمين.
المشكلة هي أنّ من يرتضي أن يؤدي هذا الدور لا يشطب فقط معارضيه من المعادلة الحزبية، وإنما يحذف حزبه من فئة الأحزاب السياسية الحديثة ليدخلها مجدداً الى غياهب الزعامات التقليدية… والأنكى من كل ذلك يُحوّل نفسه الى أضحوكة، ومن مثقف الى عصا في يد السلطان.