اتسم تاريخ العلاقات العراقية – الإيرانية بالتوتر، خصوصاً أنه منذ بداية القرن السادس عشر وحتى سقوط الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين، كان العراق مسرحاً لصراع بين إمبراطوريتين كبيرتين كلتيهما إسلامية، وغير عربية، وهما الإمبراطورية العثمانية، والدولة الصفوية الفارسية. وكان كلما تعاظم شأن حاكم من حكام الدولة الصفوية تطلع إلى انتزع العراق من يد العثمانيين، لتحقيق أهداف توسعية ومذهبية.
وبعد قيام دولة العراق الحديثة (1921) جدّدت إيران مطالبها في شط العرب. وفي 1934 قدم العراق شكوى إلى عصبة الأمم ضد تدخل إيران المسلح في شط العرب، وتم التوصل في تموز (يوليو) 1937، إلى معاهدة جديدة للحدود بين العراق وإيران تم التوقيع عليها في طهران. وفي نيسان (أبريل) 1969 ألغت إيران من جانب واحد اتفاقية 1937، مدعية أنها وقعت عليها في فترة الإمبريالية البريطانية. شهد عام 1974 وساطات ومساعٍ ديبلوماسية متعددة في محاولة لوضع حد للنزاع العراقي– الإيراني. وتوجت بلقاء القمة المشهور في الجزائر بين شاه إيران محمد رضا بهلوي، ونائب الرئيس العراقي صدام حسين، ثم إعلان 6 آذار (مارس) 1975. لقد أنهت اتفاقية الجزائر نزاع الحدود بين العراق وإيران، لكنها لم تنه مظاهر الصراع بينهما. ففي أواخر حزيران (يونيو) 1975، استدعت الحكومة الإيرانية سفراءها لدى العراق وست دول عربية خليجية أخرى احتجاجاً على مشروع لإنشاء «وكالة أنباء الخليج العربي». ورد العراق على الإجراء الإيراني برفض تسلم رسائل الحكومة الإيرانية التي تتحدث عن «الخليج الفارسي». إلا أن العلاقات العراقية- الإيرانية ما لبثت أن تحسنت. وظهرت بوادر تحسنها في مشاركة إيران في إخماد حريق شب في حقل بترول «الرميلة» العراقي في 17 نيسان (أبريل) 1976. بيد أن هذا التحسن في العلاقات بين العراق وإيران لم يبن على أسس صلبة، إذ إنه في الوقت الذي بدأ فيه تحسن العلاقات بين البلدين بدأت تلوح في الأفق ملامح الثورة الإيرانية. وفي 1979 اندلعت الثورة الإسلامية في إيران، وهو العام نفسه الذي تولى فيه صدام حسين زمام الحكم في العراق. وقبل أن تستقر الأوضاع لنظامي الحكم في البلدين دخلت العلاقات بينهما منزلقاً خطيراً. فتراشق الطرفان بالاتهامات، إيران تتهم العراق بإعدام الرموز الشيعية المعارضة وعلى رأسهم محمد باقر الصدر، والعراق يتهم إيران باستغلال المذهب الشيعي لإحداث قلاقل في الدول المجاورة ومحاولة تصدير الثورة، لا سيما إلى تلك الدول التي يشكل الشيعة جزء من سكانها.
لقد ارتفعت بسرعة وتيرة الحرب الإعلامية بينهما، واتخذت من قضية الأحقية في مياه شط العرب عنواناً، وبعد عشرة أشهر من ذلك التوتر تحول التراشق بالكلام إلى تراشق بالمدفعية، ثم اندلعت الحرب واستمرت من 1980-1988. توقفت الحرب في الثامن من آب (أغسطس) 1988 بعد أن أعلن آية الله روح الله الموسوي الخميني قبوله قرار مجلس الأمن رقم 598 الداعي لوقف القتال. بعد الحرب بعامين اثنين (1990) دخل العراق في حرب أخرى جديدة ضد جارته الكويت، انتهت بإخراجه منها مهزوماً على يد قوات دولية كانت تقودها الولايات المتحدة 1991. في هذا العام تحديداً اندلعت انتفاضة شيعية حمّل العراق جزءاً من مسؤولية اندلاعها لإيران، كما اتهمها بالتخطيط والتنسيق مع المعارضين الشيعة الموجودين على أرضها وعلى رأسهم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة لإسقاط نظام حكمه، وهو ما أعاق عودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها. واستمرت الخلافات المشوبة بالتوتر تطبع علاقة البلدين أثناء الحصار الدولي على العراق والذي استمر من 1991-2003. وبدأت في 2003 نذر حرب أميركية على العراق، وقد أعلنت إيران في البداية معارضتها للحرب ثم عادت وأعلنت وقوفها على الحياد. وبعد سقوط نظام حكم صدام حسين أظهرت طهران ابتهاجها بزوال هذا النظام.
مؤخراً تعززت علاقة إيران بالعراق في ظل الحكومة الجديدة التي غلب عليها التمثيل الشيعي، وبادرت إيران إلى الاعتراف بها، وفي سبتمبر (أيلول) من العام التالي لسقوط نظام صدام حسين استأنفت إيران والعراق علاقاتهما الديبلوماسية، وقفزت العلاقة بينهما إلى مستوى متقدم في ظل حكومة إبراهيم الجعفري، حيث أصدرت تلك الحكومة أمراً بالعفو عن المحتجزين والمعتقلين الإيرانيين في السجون العراقية ترحيباً بزيارة وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي لبغداد.
في تطور مشهود للعلاقات الثنائية بين البلدين لم يحدث منذ أربعين عاماً زار وفد عسكري عراقي كبير برئاسة وزير الدفاع سعدون الدليمي طهران، وقدم الوفد اعتذاره لإيران حكومة وشعباً عندما وصفه بجرائم صدام بحق إيران، وتكللت هذه الزيارة بتوقيع اتفاق للتعاون العسكري في مجالي الدفاع ومحاربة الإرهاب. كما زار الجعفري نفسه طهران لتعميق وتوثيق العلاقات بين البلدين بعد أن شابها التدهور في ظل حكومة إياد علاوي الذي اتهم طهران بالتدخل في الشأن الداخلي العراقي. وقدم الجعفري التطمينات اللازمة لطهران، مؤكداً أن حكومته لن تسمح للمعارضة الإيرانية (منظمة مجاهدين خلق) بأن تتخذ من الأراضي العراقية منطلقاً لممارسة عملياتها ضد إيران.
لقد كان من أبرز نتائج زيارة الجعفري، التوقيع على اتفاقية تعاون أمني مشترك بموجبه شكل البلدان لجاناً مشتركة للتنسيق الأمني وضبط الحدود والمساعدة في إعادة تأهيل الجيش العراقي. واستمر الخط البياني للعلاقات الإيرانية- العراقية في تصاعد حتى بعد خروج الجعفري من الحكومة وتولي نوري المالكي رئاسة الوزراء، حيث بادر الأخير إلى زيارة إيران، واستقبله الرئيس الإيراني الجديد أحمدي نجاد الذي أعلن أثناء هذه الزيارة عن ربط أمن بلاده بأمن العراق، قائلاً إن بلاده مستعدة لإحلال الأمن كاملاً في العراق، لأن أمن العراق هو من أمن إيران. وقد رد المالكي على ذلك بقوله إنه لا توجد حواجز تعترض طريق التعاون بين البلدين.
سبق أن وقعت إيران مع العراق في طهران في تموز (يوليو) 2017، مذكرة تفاهم لزيادة التعاون العسكري بما يتيح لها زيادة نفوذها في العراق. وتشتمل مذكرة التعاون، التي وقعها في طهران وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان ونظيره العراقي عرفان الحيالي، على أسس لتعاون دفاعي عسكري واسع، تحت زعم تطوير تبادل التجارب في محاربة الإرهاب والتطرف وأمن الحدود والدعم التدريبي واللوجستي والتقني والعسكري.
في نيسان (أبريل) وعقب الهجوم الصاروخي الأميركي على سورية، بحث وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي في بغداد، تداعيات الهجوم، ليؤكد أن الهدف من الزيارة هو تطوير التعاون العسكري والأمني بين البلدين، فيما يؤكّد رئيس أركان الجيش العراقي أن إيران ستقف إلى جانب العراق في مرحلة إعادة بناء مستقبل البلاد في مختلف المجالات. وتزامنت الزيارة مع انطلاق مراسم الاحتفال بيوم الجيش الإيراني بحضور الرئيس الإيراني حسن روحاني وكبار قادة الجيش.
الواقع أن حاتمي أكد أن الهدف من الزيارة هو تطوير التعاون العسكري والأمني بين البلدين وكذلك البحث في التطورات الأخيرة في المنطقة والهجوم الصاروخي الأخير على سورية. وبارك الانتصارات التي حققها الشعب والحكومة العراقية على تنظيم داعش. ولدى استقباله وزير الدفاع الإيراني، أشار رئيس أركان الجيش العراقي الفريق الأول الركن عثمان الغانمي إلى التعاون المتنامي بين إيران والعراق في مجال محاربة الإرهاب بهدف تطهير كامل الأراضي العراقية من الإرهابيين، معرباً عن تقديره لـلدور الأخوي البارز للجمهورية الإسلامية الإيرانية في انتصارات العراق على «داعش».
يبقى وسط كل ما أسلفناه، أن التعاون العسكري الإيراني- العراقي ظل بين شد وجذب، على طول الخط، فهل يتوقف التدخل الإيراني في الداخل العراقي، أم أن هناك ما يخفى على بعضهم، ستظهره الأيام المقبلة؟
* كاتبة مصرية