سعت القيادتان الأميركية والخليجية وراء تجميل قمة كامب ديفيد التي غاب عنها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وحضرها على مستوى القيادة العليا في البلاد أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. الرئيس باراك أوباما دعا إلى هذه القمة الاستثنائية بهدف طمأنة الدول الخليجية الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي حول الصفقة النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي جعل منها الهدف الاستراتيجي الأول له في سياسته الخارجية. الدول الخليجية قبِلت الدعوة بهدف إبراز أولوياتها الأمنية والتعرف إلى العلاقة الاستراتيجية البعيدة المدى بين واشنطن ودول مجلس التعاون الخليجي كما يراها الرئيس الأميركي في أعقاب رفعه العلاقة الاستراتيجية بين واشنطن وطهران إلى مستوى الشراكة. تقاطعت الأولويات على مفترق مكافحة الإرهاب، إنما حتى في هذا الأمر اختلفت الاستراتيجية الأميركية والخليجية على تعريف من الذي يدعم الإرهاب. لذلك، حرص الرئيس أوباما على التصريح لصحيفة «الشرق الأوسط» أنه يعتبر طهران داعمة للإرهاب وعنصر الاستقرار في المنطقة، لكنه أوضح أن لا هذا ولا أي اعتبار آخر سيوقفه عن اندفاعه إلى توقيع الاتفاق النووي معها في غضون شهرين وبناء علاقة أميركية – إيرانية ثنائية تهادنية رسمياً وتعاونية عملياً. هكذا، انطلقت قمة كامب ديفيد مبتورة التوافق المبدئي ترافقها تسريبات الامتعاض الأميركي من الإصرار الخليجي على تلبية الولايات المتحدة أولويات إقليمية للخليج، كاليمن وسورية، بإجراءات جدّية وليس بوعود عائمة.
القمة الأميركية – الخليجية تُعقد بعد ساعات من كتابة هذا المقال. تقليدياً، توضع التوجهات والقرارات الأساسية لمثل هذه القمم قبل انعقادها وتتم المفاوضات على مستوى الوزراء والخبراء على كل شاردة وواردة قبل اللقاءات.
قرار الملك سلمان بن عبدالعزيز العدول عن حضور القمة قبيل يومين من انعقادها له دلالات جدية مهما حاولت الديبلوماسية الأميركية والسعودية الإيحاء بأن لا رسالة وراء الغياب. فهذا شغل الديبلوماسية أحياناً، إنما الواقع السياسي هو أن السعودية لن تقبل أن تكون الأداة التجميلة للاتفاق النووي مع إيران.
هذا الموقف سهّل على ولي العهد الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان التوجه إلى البيت الأبيض، وثم إلى قمة كامب ديفيد بحزم في مواقف سعودية معينة وبأدوات تبرز عزم الرياض على الحفاظ على العلاقة الاستراتيجية الثنائية مع واشنطن وتلك التي بين واشنطن ودول مجلس التعاون الخليجي.
صناعة مثل هذا التوازن بين الحزم والعزم يرافقه مقدار من المرونة، فنٌّ يمتحن القيادة وحسن أدائها. البعض في إدارة أوباما يجري حساباته على أساس الخبرة والتجربة التي جعلته يستنتج أن القيادات العربية غير قادرة على الاستقلالية بسبب العلاقات الوثيقة التي تربطها مع الولايات المتحدة الأميركية. بالتالي، لا مجال لاستقلال القرار مهما كابرت، ولا بديل عن الراعي الأميركي للأمن الخليجي، مهما بدت فرنسا وغيرها متأهبة لبيع السلاح. هذا البعض يمكن وصفه بأنه مرآة لما في ذهن باراك أوباما ومساهم في صنع السياسة الأوبامية القائمة على إيران أولاً في المعادلة الإيرانية – الخليجية.
هنا يدخل عنصر التوازن بين المرونة والحزم والعزم ويمتحن فن القيادة الخليجية الجديدة، بالذات السعودية وكذلك القطرية والإماراتية. هذه الدول ناشطة إقليمياً وفي مختلف الملفات التي وُضِعَت أمام قمة كامب ديفيد وتشمل التعاون الأمني والدفاعي، والملف الإيراني بأبعاده الإقليمية في سورية واليمن والعراق وببعده النووي، والعلاقة الاستراتيجية البعيدة المدى بين واشنطن وعواصم دول مجلس التعاون، والإرهاب.
القيادة الإيرانية مهّدت للقمة الأميركية – الخليجية في كامب ديفيد بتقديم نفسها كشريك جاهز وقادر على سحق «داعش» مبررة وجودها العسكري في العراق وسورية، عبر الميليشيات الشيعية و «حزب الله». فطهران تسوّق تلك الشراكة لأنها تدرك أن «داعش» هو الأولوية في العقلية الأميركية الرسمية والشعبية والإعلامية على السواء. وترى أن في مصلحتها تقديم نفسها على أنها الشريك الأول لأميركا للقضاء على «الإرهاب السنّي» المتمثل في «داعش» وأمثاله. وهي تستخدم الحرب على الإرهاب لتغطي على توسعها في العراق ولشراء صمت واشنطن على دخولها طرفاً مباشراً لمصلحة نظام الرئيس بشار الأسد في الحرب السورية.
الوفود الخليجية توجهت إلى قمة كامب ديفيد بما لديها من وسائل إقناع بأن سحق «داعش» يتطلب المشاركة السنّية، الحكومية والشعبية، وأن الشراكة الأميركية – الإيرانية كبديل عن «التحالف الدولي» ليست سوى بدعة أو سياسة حمقاء.
واشنطن أيضاً ترحب بالمزاحمة الإيرانية – العربية للقضاء على «داعش»، لكنها تغامر بخطورة إذا افترضت أن شحنها للتنافس الإيراني – الخليجي، أو الشيعي – السنّي، يقع في مصلحتها. فمثل هذه الاستراتيجية إنما تشعل المزيد من الفتنة، وتؤدي إلى «تفريخ» التطرف السنّي والشيعي على السواء، وتحوّل دولاً عربية وإسلامية أخرى إلى نموذج سورية، وتعد بوصول الإرهاب إلى المدن الأميركية مهما تصور صنّاع القرار الأميركي عكس ذلك.
على أي حال، إن عنوان مكافحة الإرهاب ربما هو الأسهل في النقاش الأميركي – الخليجي. ولكن، عندما يتقاطع هذا العنوان مع ملف سورية، تبرز الخلافات وتظهر الاستقلالية الخليجية عن سياسة غض النظر الأميركية ودفن الرؤوس في الرمال.
ما حملته القيادات الخليجية في المسألة السورية إلى كامب ديفيد، يمثّل نموذج الحزم الذي بدأ في اليمن عندما تحركت الدول الخليجية بقيادة سعودية – مع إحاطة واشنطن علماً – وذلك لأخذ مسألة حماية الأمن القومي السعودي بيدها ولإبلاغ حكام إيران بأنّهم بالغوا في الغطرسة وأخطأوا استراتيجياً عندما سمحوا للحوثيين بعبور الحدود الحمر في اليمن وعلى الحدود مع السعودية.
سورياً، وبسبب التقارب السعودي – القطري – التركي الذي يُصاغ منذ أشهر قليلة، عاد الزخم إلى الساحة ميدانياً ورافقه العزم على الاستقلال عن سياسة النأي بالنفس الأوبامية عن أحداث سورية. فأكثر ما استعدت له واشنطن في الفترة الأخيرة يمكن وصفه بمجرد إدارة الأزمة، فيما سورية تتشرذم. وأقل ما بدت جاهزة له هو الدفع إلى الأمام بسياسة أوباما القديمة المعلنة بأن على بشار الأسد أن يتنحى. بل إن إدارة أوباما خففت لغتها لدرجة أوحت أن لا مانع لديها من بقاء الأسد في السلطة وتحالفه العسكري مع إيران طالما أن كليهما يقوم بمهمة سحق «داعش»، كما وعدا.
مسافة التباعد أو التقارب بين الموقف الأميركي وبين الموقف الخليجي الداعي إلى تغيير نوعي في الموقف الأميركي تقع تحت عنوان جدية الحزم والعزم. قد لا تنتهي قمة كامب ديفيد بإعلان يشكل اختراقاً في المواقف الأميركية. لكن جديداً سيطرأ على الساحة السورية سواء شاءت السياسة الأوبامية أو أبت. ذلك أن الديبلوماسية الخليجية قررت أن رفض إدارة أوباما مواجهة إيران في شأن طموحاتها التوسعية إقليمياً – متذرعة بالأولوية النووية – إنما هو إعفاء متعمد لقادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية من المحاسبة، بل غض طرف وطأطأة صامتة مباركة للتوسعية الإيرانية في سورية ومنها إلى لبنان.
أما مساحة التفاهم أو الاختلاف في الشأن اليمني فإنها من نوع آخر. فلقد توجه القادة الخليجيون إلى كامب ديفيد بعنوان الحزم الذي انطلقت به العمليات العسكرية للتحالف العربي، وكذلك بعنوان استعادة الأمل إذا قررت واشنطن الحزم مع طهران في الشأن اليمني.
إيران امتحنت الولايات المتحدة عشية قمة كامب ديفيد بإعلان قائد المنطقة الأولى لسلاح البحرية الإيرانية، الأميرال حسن أزاد، أن سفناً حربية رافقت «إيران شاهد» وهي سفينة المساعدات الإنسانية المتوجهة إلى ميناء في اليمن بهدف رفض تفتيش السفينة وتحدي قرار مجلس الأمن الأخير الذي صدر بموجب الفصل السابع من الميثاق وأعطى حق تفتيش السفن المتوجهة إلى موانئ في اليمن.
وبين التصعيد واحتمالات التراجع، امتحنت طهران عمداً القرار الدولي للتغطية على ضعفها في الحدث اليمني ولاستفزاز السعودية التي تريد لها أن تتورط في مستنقع اليمن. إنما الأولوية لطهران في المعادلة الاستراتيجية الأوسع هي أولاً الاتفاق النووي وما يترتب عليه من رفع مستوى العلاقة الأميركية – الإيرانية الثنائية. وثانياً، اقتناع واشنطن بنظام أمني إقليمي بديل عن النظام الإقليمي القائم بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي الست. فإيران تريد تفكيك مجلس التعاون الخليجي، وهي تريد أن تكون الشريك الأمني للولايات المتحدة في منطقة الخليج لتحل مكان الشريك العربي.
مصير طموحات الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعتمد على الاتفاق النووي الذي عقد باراك أوباما العزم على إبرامه في شهر تموز (يوليو) المقبل. أمام صبر الطموحات الخليجية فإنه يقع على أكتاف القيادات الخليجية وحسن أداء فن التفاوض على كامل العلاقة الأميركية – الخليجية من التعاون الأمني والدفاعي إلى العلاقة الاستراتيجية البعيدة المدى مع واشنطن في ضوء الاختراق المنتظر في العلاقة الأميركية – الإيرانية.
لربما أثمرت قمة كامب ديفيد وأنتجت قراراً أميركياً جدياً بإبلاغ طهران بأن لا مجال لمباركة طموحاتها التوسعية الإقليمية، بل عليها اتخاذ قرارات مصيرية قبل التوقيع على الاتفاق النووي الذي تريده طهران كثيراً. عندذاك يكون الاتفاق النووي، بالرقابة الدولية المحكمة وبوسائل إعادة فرض العقوبات إذا سعت طهران إلى تصنيع السلاح النووي، مفتاحاً لعلاقة مرجوّة بين إيران ودول الخليج تنقل منطقة الشرق الأوسط كلها إلى تحقيق حلم التعايش بأمان بتركيز على حق الشعبين العربي والإيراني بحياة كريمة وفرض عمل ونمو وإنتاج وإبداع. حينذاك يصح وصف قمة كامب ديفيد بأنها كانت تاريخية.