النأي بالنفس هو المبدأ الذي اعتمده اللبنانيون، لحماية دولتهم وأوضاعهم الأمنية واستقرارهم السياسي والإقتصادي من لهيب المنطقة المتفاقم والذي باتت اخطاره تحيط بهم من كل جانب.
ولكن، هل يتوافق هذا المبدأ مع وضعٍ آخر ما زال مهتزا ومضطربا يعاني إلى أقصى الحدود من الفلتان الأمني الذي بات يغمر لبنان بدماء الأبرياء، ممن نأوا بأنفسهم قولا وفعلا عن كل منابع الخطر ومواقع احتمالاته، وأغلبهم شباب في أول طلعتهم… هربوا من السياسة، وتجنبوا دخول الأحزاب، وأيدوا دولتهم بإحجامها عن التدخل في المشاكل الإقليمية والدولية، وسبق لهم أن تسلّحوا بالدعاء لأنفسهم: ستْركَ ورضاك يا الله، هؤلاء لم ينفعهم مبدأ النأي بالنفس بطبعته الشخصية ومسالمته للجميع، وفي كل المواقع والوقائع والظروف، ولم يشفع لهم حرصُهم على حياتهم من أن يطاولها مجرم سفاح برصاصة تفقدهم حقّهم في العيش والبقاء وتحوّلهم إلى ضحية – مأساة، تطاولهم وتقودهم إلى القبور الظالمة والمظلمة.
في هذه الوضعية المأساوية لا نريد أن نوقف العدّ، عدِّ الذين قضوا ظلما وعدوانا برصاص غادر حينا وطائش أحيانا، ويا خوفَنَا وتحسّب كلّ منا لحكم الأقدار وتحكّم الزعران بنا وبأرواحنا، وباليانصيب الذي قد يُلْحِقُ الأحياء بالأموات.
لا بد لنا أن نشكر القوى الأمنية على جهودها الحاسمة والسريعة في الإطباق على هذه الجرائم المستفحلة والقبض على المجرمين القتلة رغم ما يواجههم من أخطار أمنية قد تصل إلى حدود الإنتقام من سعيهم المشكور، حيث يعرّضون أنفسهم في بعض الأحيان لهمجية الأخذ بالثأر، الدارجة لدى بعض شرائحنا الاجتماعية. وماذا بعد؟ يتم القبض على المجرم السفاح، يُعْتَقَل في السجن، تصدر بحقّه أحكامٌ قد تصل إلى حدود الإعدام، وقد ينتهي مطافُ الجريمة بحكمٍ مخفّفٍ ملطّف بمساعي السعاة السياسيين والفئويين، وفي كثير من الأحوال، تتوقف الأمور عند هذا الحد. القاتل قابعٌ في زنزانته التي تحَوّلُ بعض مقوماتها إلى زنزانة «خمس نجوم»، وأهلُ المجني على حياته يعانونَ الألمَ والظلمَ والحرمان من أبنائهم، طيلة ما تمتدُّ بهم الحياة.
كل بضعة أيام ضحية بل ضحايا جدد يُسْلِمونَ الروح برصاصة قاتلة، بالقصد الإجرامي أو بالطيش المتلاعب بحياة الأبرياء الذين يطاولهم الموت وهم في بروج مشيدة! وتزداد الحسرة وبواعث الغضب والثورة، عندما يتبين أن مطاردة الضحية قد تمّت بسيارة مسروقة لا تحمل رقما، وأن سلاح الجريمة مرخّص، بناء على سعيٍ وتوسّطٍ من قبل أحد كبار أو صغار السياسيين والمتنفّذين، وكأنما الترخيص الذي يحمله القاتل هو ترخيص بالقتل وشرعنة للجريمة.
ماذا يعني ذلك كله؟
يعني أن العدل والعدالة في لبنان في أزمة شديدة، عميقة الجذور، متعددة الدوافع، اخلاقية الطابع.
يعني أن كل جريمة تعالج كمثل معالجات سابقاتها، دونما ردع حقيقي مؤثر، وأن العدل والعدالة لم يعد لهما ذلك الأثر الرادع، وأننا نعيش في محيط أخلاقي موبوء، تغمره الأمراض الأخلاقية ولا تؤثر به الوقايات والعقوبات القضائية.
يعني أن هذا الفلتان المريع سيبقى مستمرا ومتفاقما، وأن روح كلّ إنسان معرّضة للموت، برصاصة واحدة يطلقها مجرم لا ضمير له، دون أن يردعه القانون اللبناني الذي يعتمد مبدأ الإعدام للقاتل، خاصة في أمثال هذه الجرائم، ولكنه ردع ممنوع من الصرف والتنفيذ.
وبرغم التطورات السلبية الخطيرة في هذا الإطار، ما زالت سلطاتنا الحاكمة تمتنع عن تنفيذ أحكام الإعدام، معلّلة ذلك بأسباب إنسانية، وبالإرتباط بما تمليه علينا المعاهدات الدولية التي وقّعت عليها دولتنا ملزمة نفسها بالإمتناع عن تنفيذ قانون الإعدام، وبأن السلطة يجب ألاّ تجاري المجرم القاتل، وألاّ تعاقب إجرامه «بجريمة» أعتى وأشد!
ومع استمرار وتكدّس ملفات القتل الطاغية، تزداد أصوات المنادين بتنفيذ حكم الإعدام على كلّ من يتحكم بحياة الناس، بقتلهم برصاصة مجرمة ثمنها بضعة قروش.
نعلم أن حكم الإعدام بات ممنوعا في كثير من بلدان العالم، ونعلم أن تنفيذ حكم الإعدام محرج للمسؤولين السياسيين، إنسانيا وسياسيا و«انتخابيا»، ولكننا نعلم كذلك أن البلدان التي ألغتها، قد عمدت إلى الإلغاء بعد أن وصلت الجرائم فيها إلى حدود متدنيةٍ خاصة منها تلك الجرائم المجّانية التي يموت فيها الناس ظلما وعدوانا، لا تأخذ بعين الإعتبار أي وجود للدولة ولهيبتها المفترضة وقوانينها معلقة التنفيذ، حيث يأخذ المجرم بعين الاعتبار أن هناك جهة ما ستخرجه من السجن وستجنبه العقاب وستحميه في كانتوناتها التي لا يجرؤ أحد على دخولها.
لقد علق فخامة الرئيس عون بالقول بأن لا مجرم إلاّ وسيحاكم، وأنه لن يكون هناك أي غطاء لأحد لا في الأمن ولا في القضاء، وهذا توجه وموقف مسؤول يتخذه فخامته، ولا شك أنه سيعزّز إذا أضيف إليه موقف وزير الداخلية الذي أدلى به في عيد قوى الأمن الـ156 حين قال: «إن هذا التفلت العقلي يقتضي أن يُرْدع، لا بأحكام قاسية فحسب، بل بأحكام إعدام، طالما أن هناك جريمة متعمّدة».
معالجة الامراض تكون عادة بالدواء بوصفات طبية وفقا لحالة المريض ونوعية المرض، حتى اذا ما فرض عليه الوضع عملية جراحية، تتم المعالجة بموجبها، ونحن أمام مرضٍ إجتماعي وبائي يزداد انتشاره يوما بعد يوم، حاصدا مزيدا من الضحايا البريئة، ومخلّفا في المجتمع اللبناني جملة من المآسي المفجعة التي لن يحلّها بعد الآن، إلاّ الحزم والمعالجة بما يحكم به القانون ويفرض له من عقوبة.
ولا يمكن بعد الآن معالجة أمراضنا الوبائية إلاّ باعتماد «الدواء القانوني» في أقصى درجاته وعقوباته، وباعتبار أن الدولة هي سلطة لا توازيها ولا تعلو عليها سلطات ميليشياوية أو عصابات مسلّحة تتاجر بالمخدرات وبالسلاح وكل أنواع الممنوعات، فضلا عن متاجرتها واستهتارها بأرواح الناس. إن عنوان الدولة ورمزها، يتمثلان في قضاء حر وعادل ومستقل، هو ضميرها الحي وصمّام الأمان لمواطنيها.
معالجة أوضاعنا الأمنية وحياة أبنائنا من جرائم السفّاحين، باتت تتطلب ثورة عالية الصوت والنبرة، وتصرفاتٍ دفاعية عن النفس تُلْزم السلطة باتخاذ الإجراءات الوقائية والرّدعية الطائلة والقادرة والمنظِّمة والمنظِّفة لقواعد الحياة في مدننا وقرانا ومناطقنا، من كل أوساخ الوطن وقاذوراته.a