Site icon IMLebanon

«النوايا» معبَر لمشهد جديد

أرَّخَ «إعلان النوايا» بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» لمرحلةٍ سياسية جديدة داخل البيئة المسيحية، بدأت بفرضِ إيقاعها على الحياة الوطنية. وأهمّيتُه ليست فقط في البنود الواردة فيه، بل في المسار الذي افتتحَه والدينامية التي أطلقَها، والمرشّحة إمّا للانتهاء من حيث بدأت، أو التحَوّل إلى كرَة ثلجٍ تشَكّل مدخلاً لوحدةِ صفّ مسيحية.

بمعزل عن الاتّجاه الذي يمكن أن يسلكَه هذا الإعلان، على رغم حِرص الطرَفين على السَير به نحو الأمام لا العودة إلى الوراء، إلّا أنّه يعَبّر في الحقيقة عن لحظةِ وعيٍ مسيحية في مرحلةٍ هي مِن الأشدّ خطورةً على لبنان واللبنانيين. وقد يقول قائل لماذا هذا الوعي لم يتمظهَر قبل اليوم؟ لأنّ الأمور بكلّ بساطة مرهونة بأوقاتها وظروفها وتعقيداتها وتراكماتها ودينامياتها، ولا يصحّ القول لماذا اليوم لا الأمس؟

ولعلّ أفضل ما يعَبّر عن هذا الوعي المسيحي هو البَند رقم 17، أي البند غير المذكور في الإعلان، والذي يؤشّر لو كتِب إلى أنّ التقارب لم يحصل لأسباب سلطوية، وهنا مكمَن قوّتِه، لا ضعفه، خصوصاً أنّ أولوية العماد ميشال عون، كما هو معروف، الوصول إلى الرئاسة والأولى، فيما الدكتور سمير جعجع لم يتعهّد شيئاً على هذا المستوى، بل ربَط تأييد عون رئاسياً بمدى اقترابه سياسياً ووطنياً مِن مبادئ 14 آذار.

وما تقدّمَ ليس تفصيلاً، لأنه يدلّ إلى أنّ الأولوية التي حتّمَت التقارب هي الحاجة إلى مشهد مسيحي جديد، والذي تشَكّل السلطة نتيجةً طبيعية له ولو بأشكال مختلفة، إنّما الأهم هو الانتقال من مرحلة الاشتباك الانقسامي إلى الاشتباك المنظّم، لأنّ المرحلة لا تحتمل ترَف الانقسام المسيحي العمودي، والمسؤولية الأكبر في الحفاظ على الوجود المسيحي ملقاة على جعجع وعون انطلاقاً مِن حجمِهما التمثيلي.

فالحفاظ على الوجود المسيحي لا يتمّ فقط بقرار فاتيكاني ولا خطّ أحمر دولي ولا رغبة إسلامية سنّية وشيعية ودرزية صادقة، بل من خلال سعيٍ مسيحي لبناني يبدأ بوَضع أولويات جديدة تستنِد إلى الوقائع التي أفرزتها السنوات الأخيرة، وهذا ما أثبتَته الإرادة المسيحية إبّان الحرب اللبنانية، كما أثبتَته الإرادة الكردية في كوباني أخيراً.

وهذا الكلام أو التوَجّه لا يروق لشخصيات وقوى مسيحية أخرى، وهذا مِن حقّها، وهي ترى أنّ دور المسيحيين يكون بتحالفات وطنية وعلى قواعد وطنية، لأن لا حلول مسيحية لهواجس المسيحيين، ولا حلول إسلامية لهواجس المسلمين، بل إنّ الحلولَ وطنيةٌ لهواجس المسيحيين والمسلمين معاً.

وعلى رغم صوابيّة هذا التوَجّه الذي يجَسّد بدقّة الميثاقَ الوطني الذي قام عليه لبنان، ويُظهِر المسيحيين بأنّهم الأكثر تمسّكاً بالفكرة اللبنانية في خِضَمّ الصراع السنّي-الشيعي، إلّا أنّ المعضلة تكمنُ في مكان آخر، وهذه الشخصيات مدعوّة إلى التعامل مع الواقع المستجدّ بعقلٍ وحكمة عبر التوفيق بين البُعدَين المسيحي والوطني، لا الفصل بينهما أو وضعهما بشكل متقابل، وذلك تماماً كما فعلت سابقاً حين وفّقت بين البعدَين العلماني والطائفي للبنية المجتمعية اللبنانية على حساب توَجّهها الأساسي الذي كان يرفض الإقرار بالبعد الطائفي للتركيبة اللبنانية.

فأساس أيّ عمل سياسي هو التعامل مع الوقائع ومحاولة تطويرها لا التسليم بها، إنّما لا يجوز في نفس الوقت القفز فوق هذه الوقائع بطروحات نظرية تشَكّل حلماً أو هدفاً حقيقياً، ولكنّها غير قابلة للتطبيق وثمَّة هوّةٌ بينها وبين هواجس الناس ومخاوفهم.

ولعلّ أبرزَ الوقائع التي لا يمكن تجاهلها:

أوّلاً، مشهد تفريغ الشرق من المسيحيين كان له أثرٌ بالغٌ على لاوعي المسيحيين اللبنانيين الذين شَعروا بالقلق على المصير.

ثانياً، صعود التطرّف السنّي بشكل غير مسبوق، وتوَسّع دور «حزب الله» بشكل غير محسوب، أوجَد شِبه قناعةٍ مسيحية بأنّ هذا التقابل سيَبقي لبنان تحت تأثيره حتى إشعار آخر، ما يعني إبقاءَ مشروع الدولة معلّقاً على تسويات إقليمية غير مضمونة.

ثالثاً، التفاهم الأميركي-الإيراني معطوفاً على دور طهران العسكري في المنطقة معطوفاً على «عاصفة الحزم» وقيام توازن استراتيجي جديد، وبالتالي أوجَدت هذه العناصر شِبه قناعةٍ لدى غالبية المسيحيين وطرفَي الصراع أنّ حسمَ أيّ طرَف في المنطقة على الآخر مستحيل، وأنّ الأمور محصورة بين خيارَين: إمّا استمرار الصراع الحالي لسنوات وعقود، والطرَف الأكثر تضَرّراً مِن غياب الاستقرار هو المسيحي.

وإمّا الوصول إلى تسوية سعودية-إيرانية واستطراداً سنّية-شيعية تأخذ في الاعتبار هواجسَ الطرفين في الدرجة الأولى، ومن دون الوقوف عند هواجس المسيحيّين.

رابعاً، رغبة المسيحيين الجارفة برؤية قياداتهم مجتمعةً وموحّدة حفاظاً على وجود وسلطة وحضور، في زمنٍ تشهَد فيه المنطقة سقوطاً للحدود ورسماً جديداً للخرائط.

وعليه، هناك مشهدٌ جديدٌ داخل البيئة المسيحية افتتحَته ورقة «إعلان النوايا»، ومِن الطبيعي أن يثيرَ هذا المشهد ردوداً وانتقاداً ومخاوفَ، إلّا أنّه يُمثّل حاجةً مسيحية-وطنية سيَجد الجميع مع الوقت أهمّيته، وما مشاركةُ الدكتور جعجع أمس في اللقاء المشترَك بين طلّاب «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» إلّا تأكيدٌ على هذا التوَجّه الجديد، وسعيٌ نحو تثبيته وتحصينه وتطويره…