قد يكون من الخطأ أن يرفع مجلس الاحتياطي الفدرالي أسعار الفوائد مرة أخرى هذه السنة، في ظلّ توقعات بارتفاع تدريجي حتى أواخر العام 2019 ، بعد فترات بقيت فيها أسعار الفوائد متدنّية.
تشير المؤشرات الواردة منذ اجتماع اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة الى انّ سوق العمل مازال يتعزّز، في ظل ارتفاع في النمو وزيادات في الوظائف.
طبعاً الفدرالي يتّخذ قراراته بناءً على توقعات، لكنّ نموّ الاقتصاد الاميركي بهذا الشكل سيؤدي حتماً الى ارتفاع نسب التضخم في ظلّ هذه المعطيات. إلّا أنه ومن سوء الطالع، أن يكون هناك «soft Landing» بعد ارتفاع أسعار الفوائد.
كل المعطيات تشير الى انه قد تنتج عنها انتكاسات مالية أو أزمة مصرفية وليس هنالك ما يدعو الى الاعتقاد بأنّ الأمور ستكون هذه المرة مختلفة. والعكس صحيح إذ إنه عندما تضع المصارف المركزية الفوائد عند مستويات منخفضة من اجل خلق الانتعاش الاقتصادي بعد ركود (كما فعل مجلس الاحتياطي الفدرالي وغيره من المصارف في الدول المتقدمة) فإنّ الأمور تتداخل مع سير الاقتصاد والاسواق المالية الأمر الذي تترتّب عليه نتائج خطيرة بما في ذلك خلق التشوّهات والاختلالات.
كما أنها ترسل «false Signals» تشجّع على القيام بأنشطة تجارية وغيرها من الأعمال التي لا تكون مربحة أو انها قد تستمرّ في بيئة اسعار فوائد طبيعية. هذه الاعمال التي تنشأ في بيئة مصطنعة تُعرف باسم «malinvestments» وعادة ما تفشل عندما تعود اسعار الفوائد الى الارتفاع الى مستوياتها الطبيعية مرة اخرى ومن أمثلة «malinvestments» شركات دوت كوم في اواخر التسعينات وفقاعات الإسكان وناطحات السحاب في دبي وغيرها من الاسواق الناشئة بعد الأزمة المالية العالمية.
فشل هذا النموّ (Malinvestments) يؤدي عادة الى ركود وأزمات مصرفية ومالية. والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل هذا التناقض، كيف تؤثر اسعار فوائد مرتفعة على الركود الاقتصادي؟ قد تكون الإجابة على هذا السؤال انّ الامر يتوقف على أمور عدة لا سيما انّ ارتفاع اسعار الفوائد يبطئ الاقتراض ويخفّض الطلب على الإسكان ومبيعات السيارات، و يمكن أن يؤدّي الى نموٍّ اقتصادي أبطأ او الكساد.
وقد تكون الامور على خلاف ذلك حتى في بيئة فوائد مرتفعة إذ إنه، على سبيل المثال، اذا كانت المعدلات 11 بالمئة الآن وتراجعت نحو 9 بالمئة (وهي دوماً نسب مرتفعة جداً) انما المهم الاتّجاه العام بالمقارنة بما كان يحدث في السابق، مع العلم انّ اسعار فوائد مرتفعة تضرّ عموماً بالاقتصاد لا سيما وانّ الأموال تكون اكثرَ كلفة، مقابل تراجع القدرة الشرائية، وانعدام الاستثمار.
كذلك فإنّ الفوائد المنخفضة تبرز تحدّيات كبيرة امام المستثمرين لا سيما صندوق المعاشات التقاعدية وشركات التأمين على الحياة والتي تهدف الى توفير بعض العائد على مدى فترة طويلة في الزمن. لكن يبدو انّ المدّخرين والمستثمرين في العالم المتقدم، كذلك في بعض الاسواق الناشئة اعتادوا على معدلات منخفضة من التضخم نتيجة اسعار فوائد متدنّية والطابع التدريجي للانتعاش الاقتصادي.
لكن هذه الأمور قد تتغيّر وخصوصاً أنّ الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة أصبحتا مقتربتين من مستوى عمالة مكتمل، الامر الذي سوف يؤدي حتماً الى ارتفاع الضغوط على الاجور ما سيتسبّب بمخاوف في شأن التضخّم الامر الذي يدعو حتماً الى النظر في إمكانية رفع اسعار الفوائد من اجل ضبط معدلات هذا التضخم.
وهناك حجة اخرى لرفع اسعار الفوائد لا سيما وأن تخفيض هذه الأسعار تقليدياً كان السلاح الأوّل لمكافحة الركود. وقد وصلت الفوائد الى القعر تقريباً. وإذا ما سلّمنا جدلاً انّ هناك بوادر ازمة اقتصادية اخرى فالمصارف المركزية بما في ذلك الاحتياطي الفدرالي لا يمكنها خفضها أكثر دون الدخول في مجالات الفوائد السلبية. وللعلم فإنّ الفوائد السلبية أو NIRP كما هي حال اليابان لم تستطع إخراج البلاد من حال الركود التي هي فيه وقد لا تكون ناجحة في الولايات المتحدة الأميركية ولا في أوروبا وغيرها من الدول المتقدمة.
هكذا تبدو الامور من الناحية الاقتصادية والشيء الكبير هو حقيقة الاختلاف في السياسة النقدية في جميع انحاء العالم، والسؤال هنا ماذا يحدث عندما تكون لديك هذه المصارف المركزية الكبيرة وتسيّرها اتّجاهات مختلفة؟ والأكيد أنّ على الفدرالي الاميركي السير على خط رفيع في سياسة المناورات، إذ إنّ سرعة التحرّك فيها الكثير من الآثار غير المقصودة والتي قد تدفع العالم نحو الركود وعدم الاستقرار وقد يكون من الصعب بعدها استعاده الثقة في النظام المالي والمصرفي العالمي.
وقد يكون الوضع اللبناني متمايزاً عن غيره من الدول الناشئة والتي عادة ما تتبع الفدرالي الاميركي في تحركاتها. وقد تكون الفوائد اللبنانية وصلت الى حدود اللامعقول حيث المدّخرات اصبحت اكثر جاذبية، والاستثمار معدوم في ظلّ غياب سياسات نقدية واضحة لا سيما وانّ المصارف تسعى جاهدة الى تأمين مداخيل من خلال فوائد على القروض المرتفعة.
أما أن تكون القروض فقط بالدولار الأميركي فهذا عامل سيّئ ويُلقي الشك على الليرة ووضعنا النقدي والمالي، وقد يكون البنك المركزي غير مهتم إلّا بتأمين العملات الأجنبية تحسباً لأيّ تدهور في الليرة اللبنانية.
لذلك قد تكون اعمال المصارف اليوم دون رقابة جدية من قبل البنك المركزي، والامر الأكيد هو أنّ سياسات المصارف في غياب النموّ تكبّل الاقتصاد وغيرها من الاستثمارات، وتشجع الناس على الادّخار دون أيّ عملية اخرى.
هذا الامر شبيه نوعاً ما بالوضع في اليابان مع نسب ادّخار عالية وفوائد تحت الصفر، ومع فارق هو انّ اليابان بلد صناعي ومتقدّم ورغم ديونه لديه اقتصاد قوي وعملة ثابتة.
لبنان على عكس اليابان عملياته المصرفية إحترازية بامتياز، الامر الذي يفشّل النموّ والاستثمار وكذلك الاستهلاك، ويُدخلنا في دوامة النموّ الصفري والذي لازمنا منذ بدء الأزمه السورية، والأمر قد يطول طالما أنّ الوضع السياسي متقلّب، وفي غياب حكومة تتّخذ القرارات.