يدفع تردّي الأوضاع الإقتصادية والمالية، وما ينتج عنها من ارتفاع في نسبة مخاطر الإئتمان، إلى الاستنتاج أن سعر الفائدة على سندات الخزينة سيرتفع. وما يدعم هذا الأمر أن توجّه الإحتياطي الفدرالي هو لرفع أسعار الفوائد في نهاية هذا العام. فهل ترتفع أسعار الفائدة في لبنان؟
يعتمد لبنان على سعر صرف ثابت لليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي (within an interval). هذا الأمر سمح للمواطن اللبناني بتفادي التداعيات المباشرة (خسارة قيمة الأصول) للتردّي الإقتصادي (ضعف النمو وإضمحلال الإستثمارات) والمالي (إنفاق مُفرط، عجز مُزمن) عبر تحوّيلها إلى دين عام.
وإذا كنّا من مؤيدي هذه السياسة من ناحية أن كلفتها على الإقتصاد تبقى أقل من الكلفة التي تفرضها الخسارة في الأصول، إلا أن هناك عدّة نقاط ضعف تشوب هذا الخيار:
أولًا: إن التقيّد بسعر صرف عملة ثابت، يحرم المصرف المركزي اللبناني من سياسته النقدية المُستقلّة. وهذا الأمر مُثبّت طبّقًا لمثلث عدم التوافق (أو مثلث مانديل) والذي ينص على أن إقتصادا مُعينا لا يُمكن أن يتمتّع في الوقت نفسه بسعر صرف عملة ثابت، حرية تنقّل رؤوس الأموال، وسياسة نقدية مُستقلّة.
وإذا كان لبنان يملك الميزتين الأوليتين – صرف عملة ثابت وحرية تنقّل رؤوس الأموال، فإنه من المُستحيل أن يمتلك سياسة نقدية مُستقلّة. وعلى هذا الصعيد ينبغي ان نذكر أن عدم إحترام هذه القاعدة يجلب الكوارث أحيانا، على مثال الأزمة المالية التي عصفت بآسيا في العام ١٩٩٩.
ثانيا: إن قوانين إنشاء المصارف المركزية تنصّ كلها على سلم أولويات المهام المُناطة بالمصارف المركزية. وتختلف الأولويات بين المصارف المركزية على مثال المركزي الأوروبي الذي يُعطي الحفاظ على اليورو أولوية مُطلقة والإحتياطي الفدرالي الأميركي الذي يُعطي دعم الاقتصاد وخلق فرص العمل الأولية في سياسته. أما في لبنان فقط أناط قانون النقد والتسليف وخصوصا المادة ٧٠ منه، بالبنك المركزي مهمة الثبات النقدّي بالدرجة الأولى ومن ثم الثبات الإقتصادي.
هذا الأمر يجعل من المحافظة على الليرة اللبنانية المُهمّة الأولى وبالتالي فإن مصرف لبنان مُلزم بتغير سعر الفائدة اذا اقتضت الضرورة، من أجل المحافظة على سعر صرف ثابت مقابل الدولار الأميركي.
وبما أن الإحتياطي الفدرالي يُغير سياسته النقدية طبقا للوضع الإقتصادي في الولايات المُتحدة الأميركية، فإن لبنان مُلزم بإتباع سياسة مُماثلة تحت طائلة المضاربة على العمّلة اللبنانية وخسارة قدرة جذب الإستثمارات. وهذا الأمر قد لا يكون من مصلحة الإقتصاد اللبناني نظرا الى عدم التناغّم بين الإقتصادين اللبناني والأميركي.
ثالثا: في حال كان الوضع النقدي تحت السيطرة، فإن المصرف المركزي يواجه مُشكلة العمل على الثبات الإقتصادي بشكل مباشر عبر سعر الفائدة.
وبالتالي، فإنه محروم من قدرته على التدخّل في الأسواق. لكن هذا لم يمنع حاكم مصرف لبنان من خلق برامج تحفيزية لبعض القطاعات والتي وبحسب المصرف ساهمت في نمو بنسبة 0,5٪ من الناتج المحلّي الإجمالي.
على هذا الصعيد يجب القول أنه وعلى الرغم من هذه العيوب، تبقى السياسة النقدية المُتبعة هي السياسة المُثلى التي يجب إتباعها.
وتبقى إدعاءات بعض الطامحين إلى المناصب، إدعاءات لا تمتّ إلى الواقع بصلة، حيث أن تحرير صرف سعر الليرة اللبنانية كما يقترحه البعض، يُشكّل ضربة قوية لليرة التي ستخسر حكما من قيمتها بسبب ضعف الإقتصاد.
فكما هو معروف في النظرية الإقتصادية أن العملة تعكس ثروة البلد وبالتالي ومع إزدياد الدين العام، من الطبيعي أن تتراجع قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي.
وهنا تكّمن قوة حاكم مصرف لبنان وسياسته النقدية التي حافظت على قيمة الليرة (١٥٠٠ ليرة للدولار الواحد) حين كان الدين العام ٣٨ مليار دولار في العام ٢٠٠٥ واليوم مع بلوغ الدين العام عتبة الـ ٧٢ مليار دولار أميركي.
يبقى السؤال عن الطريقة التي يعتمدها مصرف لبنان لتحقيق الثبات النقدي. هذا الأمر مُشعّب وأساسه إحتياطي العملات الأجنبية التي من المفروض أن تتوفر بشكل كافٍ لإمتصاص حركات السوق الإعتيادية وحتى غير الإعتيادية. ومن دون هذه الإحتياطات، فإن سيناريو العام ١٩٨٣ مُرشّح للعودة وبالتالي خسارة على المواطن اللبناني قبل أي جهة ثانية.
الطريقة التي يعتمدها مصرف لبنان هي طريقة شرعية وتقضي بإستقطاب رؤوس الأموال. وهذا الأمر يفرض توفرّ عدد من الشروط، من أهمها:
سعر فائدة عالية، فرص إقتصادية واعدة، آمان، بيئة إستثمارية مؤاتية.
في لبنان، لا فرص إقتصادية في ظل غياب ثبات سياسي وأمني، وبالتالي لا توجد بيئة إستثمارية مما يعني أن العامل الوحيد الذي يجذب رؤوس الأموال هو سعر الفائدة. لذا كل الهندسات المالية التي يقوم بها مصرف لبنان بهذا الهدف تصبّ في خانة سياسة الثبات النقدّي. وإذا ما تمّ إنتقاد أخر عملية قام بها مصرف لبنان من بعض الأشخاص، يجب القول اليوم أنه لولا القطاع المصرفي لكانت الدولة أفلست منذ فترة طويلة.
أيضا ينبغي القول أن المصارف التجارية لا تقبل بسهولة شراء سندات خزينة من ناحية أنها تطلب في كل مرّة إصلاحات من قبل الدولة. وبالطبع هنا يلعب مصرف لبنان دوره في الثبات الاقتصادي والمالي من ناحية ضغطه على المصارف التجارية للقبول بشراء هذه السندات.
جدير بالذكر أن المخاطر تزيد من ارتفاع الدين العام بما يعني أن سعر الفائدة المطلوب يُصبح أكبر. وهذه الحقيقة غير مُطبّقة في لبنان حيث أن سعر الفائدة إنخفض في السنين الماضية مع إزدياد الدين العام.
لذا نستنتج أن مصرف لبنان محكوم برفع الفوائد ولو بشكل ضئيل. وما يدفعنا إلى الإعتقاد بمصداقية هذا السيناريو هو أن الإتجاه العام هو لرفع الفوائد الأميركية في نهاية هذا العام، وبالتالي وطبقا لغياب الإستقلالية في السياسة النقدية، يتوجّب على مصرف لبنان إتباع رفع الفائدة في الولايات المُتحدة الأميركية لأن عدم رفعها سيؤدّي إلى هروب رؤوس الأموال.
كما أن رفع سعر الفائدة في لبنان سيجعل المصارف اللبنانية أكثر ليونة في إقراض الدولة اللبنانية وهي التي تعتبر أن سعر الفائدة الذي تدفعه الدولة لا يوازي مُستوى مخاطر الإئتمان للدولة اللبنانية.
في الختام، يبقى القول أن السياسة النقدية الحالية هي أفضل جواب على الواقع المالي والإقتصادي الحالي. ولمُنتقدي هذه السياسة نقول، تفضلوا بطرح سياسة تؤمّن حياة ثابتة للمواطن اللبناني وتحافظ على عمله وجنى عمره.