.. وأخيراً، أصبح بمقدور اللبنانيين تنفّس الصعداء، مع بدء رفع النفايات المكدّسة في الشوارع والساحات، والتخلص من كابوس أزمة مُعيبة، هددت صحة الكبار والصغار، وأدت إلى تلويث الهواء، وإلحاق أفدح الأضرار بالبيئة!
ثمانية أشهر بالتمام والكمال، استنفدتها السجالات العقيمة، والمحاولات البائسة، لإيجاد الحلول المناسبة لأزمة خدماتية اجتماعية وبيئية، غير مسبوقة في تاريخ دولة الاستقلال، ولا مثيل لها حتى في أكثر البلدان تخلفاً على وجه المعمورة!
كان من الممكن أن تستمر هذه الكارثة الوطنية بامتياز، ثمانية أشهر أخرى، لو بقيت الحوارات والمناقشات تدور في حلقة ملتهبة من تضارب المصالح، والصراع على المغانم بين أطراف الطبقة السياسية الفاسدة والمهترئة!
الأمور أصبحت واضحة، ومن دون أي لبس أو غموض:
عندما تلتقي المصالح تحضر الحلول!
وبسرعة صاروخية، يتم إقرار المحاصصات، وتنطلق ورش العمل بجدية وحماس الطامح بتحقيق المزيد من الأرباح، وكأن سياسيي هذا الزمن، ما زالوا في بداياتهم المتواضعة، ويسعون إلى تأمين غدهم، ومستقبل أولادهم، بشكل لائق.. وعلى المستوى المنشود!!
فجأة سقط الحُرم عن إعادة فتح مطمر الناعمة، وأصبح مطمر برج حمود متاحاً على لائحة الحلول، وتحوّل مكب خلدة قرب «الكوستابرافا» إلى مشروع مطمر شرعي، مستفيداً من مساحات طمر البحر بالأنقاض والنفايات، على غرار ما سيجري في معالجة جبل النفايات في برج حمود!
* * *
ويبدو أن أزمة النفايات، والمعاناة الشعبية التي رافقت معالجتها، تحوّلت إلى نموذج فاضح، يتّبعه أهل الحل والربط في القرار السياسي، من دون تردّد أو خجل، بحيث تبقى حلول الأزمات الأخرى، التي تشدّ تداعياتها على خناق العباد والبلاد، رهناً بالتوصل إلى الصفقات والمحاصصات المعهودة، وإلا فليستمر البلد يتخبّط في أزماته، وليبقى المواطنون المغلوبون على أمرهم، أسرى الصراعات النفعية والريعية بين السياسيين، والذين يحرصون على تغطيتها بخطابات سياسية نارية تارة، أو بمخاطبة الغرائز الطائفية والمذهبية تارات أخرى!
من أزمة الكهرباء، التي أصبح عمرها من عمر اتفاق الطائف وإنهاء الحرب، والتي ما زالت تكلّف خزينة الدولة مليارين ومائتي مليون دولار سنوياً، وتكلّف المواطن المعذب فاتورة إضافية للمولدات، هذه الأزمة المزمنة مرشحة للاستمرار ردحاً آخر من الزمن، طالما استمرت صفقات الفيول وقطع الغيار للمحطات المهترئة، ومشاريع الصيانة المشبوهة، موضع توافق بين أطراف سياسية، تتقاسم «غنائم» الكهرباء وفيولها وملحقاتها، وفق جدول محاصصات «متماسك وصامد»!
إلى مسألة تلزيم إدارة شركتي الخليوي، والتي تمّ تأجيل مواعيدها أكثر من مرّة، بسبب الضغوط السياسية التي مارستها أطراف نافذة معروفة، على وزير الاتصالات، سعياً للحصول على «حصص وازنة» في التلزيمات المطروحة!
وثمة من يربط بين ضغوط التعطيل لعروض تلزيم الخليوي، والحملات التي يتعرّض لها رموز وزارة الاتصالات، من الوزير بطرس حرب إلى مدير أوجيرو عبد المنعم يوسف، والتي وصلت إلى حدّ الاتهام بالعمالة والتخوين!
إلى ملف استثمار الثروة النفطية، والذي ما زال معطلاً، ومقفلاً عليه في الأدراج المغلقة، حيث أدّت الخلافات المستفحلة بين الأطراف السياسية المعنية، ليس إلى تجميد إنجاز هذا الملف الاستراتيجي وحسب، بل وأدت إلى ترك المجال مفتوحاً للعدو الإسرائيلي، باستخراج النفط والغاز في المناطق البحرية المتنازع عليها، والتي يعتبرها لبنان واقعة داخل الحدود المعترف بها دولياً.
العدو الإسرائيلي استدرج شركات النفط العالمية للاستثمار في آباره البحرية، وبدأ التعاقد لبيع إنتاجه من النفط والغاز، والأطراف السياسية عندنا ما زالت تتلهى في نزاعاتها الأنانية والنفعية، على حساب البلد، ومستقبل أبنائه المساكين!!
* * *
في ظل هذا الفساد المستشري في مفاصل الحركة السياسية، وما ينتج عنه من عجز وشلل في إدارة شؤون الناس، والحفاظ على دور الدولة وهيبتها، يصبح الحراك المدني حاجة، تتخطى الظروف الطارئة، وما تفرضه من تكتيكات عابرة، ليكون قادراً على التحوّل إلى حركة جماهيرية قادرة على مخاطبة واستقطاب أوسع وأكبر شريحة من اللبنانيين، وإطلاق موجة التغيير المطلوب، لإنقاذ الوطن والجمهورية والشعب، من الانهيار المحتّم وسوء المصير.
تجربة الحراك في أزمة النفايات تمّ خنقها وهي في المهد، وقبل أن تتحوّل إلى تيّار شعبي جارف للطبقة السياسية الفاسدة والعاجزة.
ولا شك في أن أطرافاً في الحراك ارتكبوا أخطاء قاتلة، لا مجال للخوض في تفاصيلها الآن، ولكن الخطأ الأفدح كان إصرار كل طرف من أطراف الحراك، على التفرّد بالقرار والشعارات، وعدم بذل الجهود الجدية لوضع برنامج واحد للحراك، والتوصل إلى قيادة موحدة، توحي بالثقة وتعبّر عن نضوج وواقعية في الممارسة السياسية.
* * *
أزمة النفايات انتهت بالمطامر التعيسة.. ولو مؤقتاً!
أما الأزمات الأخرى فباقية.. بانتظار تلاقي المصالح لتحضر الحلول!