قليلون جداً هم الذين يكلفون أنفسهم عناء قراءة الاتفاق النووي بين الدول الـ6 الكبرى وإيران بهدوء، أو بتمعن في تفاصيله التقنية والعلمية وما يتصل برفع العقوبات، لتقييمه واستخلاص النتائج السياسية منه.
في المقابل، كثيرون جداً الذين يقفزون بسرعة الى التساؤل عن الاتفاقات السرية، أو ما يسمونه تفاهمات تحت الطاولة، للذهاب الى ان ما فعلته الدول الـ6 هذه ليس إلا تسليم المنطقة لإيران وتكريسها قوة إقليمية ثانية فيها (بعد إسرائيل، ربيبة الغرب الأولى) على حساب العرب ومصالحهم ومستقبلهم، على رغم كونهم الغالبية الساحقة على مساحة المنطقة الممتدة من المحيط الى الخليج.
ولا بد من القول انه في عالمنا العربي يكثر هؤلاء الأخيرون الى درجة أنهم يكادون يشكلون معظم الناس، بمن في ذلك النخب الحاكمة والمثقفة والمتعلمة، فضلاً عن قادة بعض الأحزاب لا سيما من يصف نفسه من بينهم بأنه يساري أو حتى «يساري جديد» كما درجت العادة أخيراً.
والحال أنه لا يمكن الجزم بعدم وجود اتفاقات سرية، أو ربما توجهات لمثلها في وقـت ما، لكن الظن بأن ما تم هو مؤامرة، وعلى العرب تحديداً، ليس الأسلوب السليم لتقييم الاتفاق الذي وقــع بعد مفاوضــات استمرت حــوالى عامين وانــتــهت الى ما انتهت اليه في فيينا في 17 تموز (يوليو) الجاري.
ذلك أن لكل من الدول الـ6، كما لايران، مصلحتها الخاصة في الوصول الى اتفاق. وليس في ذلك عيب، ولا بالضرورة مؤامرة مبيتة أو محبوكة باتقان ضد دول أخرى، لا سيما اذا كانت الدول الأخرى هذه تعرف مكامن قوتها من ناحية، كما تعرف تالياً مصالحها وكيف يمكنها أن تحققها من ناحية ثانية.
في البداية، لم يكن أحد يتوهم أن ادارة الرئيس الأميركي باراك أوباما كانت تناور، أو أنها لم تكن جادة على الأقل، في مسألة التفاوض مع ايران حول ملف الأخيرة النووي. وفي واشنطن الآن، وعلى رغم الضجة المثارة في الكونغرس حول الاتفاق، لا خلاف بين خصوم أوباما وأنصاره على أنه تمكن، في خلال فترتي رئاسته لثماني سنوات، من تحقيق انجازين تاريخيين لبلاده: انهاء عداء مع كوبا استمر لما يفوق الستين عاماً، وآخر مع ايران لحوالى أربعين عاماً.
وتحت ادارة أوباما التي جاءت رداً على مغامرات جورج دبليو بوش في أفغانستان والعراق، وفي الظروف الاقتصادية الأميركية الراهنة التي سببت هذه المغامرات جزءاً كبيراً منها، فإن السوق الايرانية الآن (وربما غيرها لاحقاً في العراق وسورية) تشكل مجالاً واسعاً للاستثمارات والصناعات الأميركية التي سيكون من شأنها أن تساهم ليس في تعافي الاقتصاد فقط، بل أيضاً في دور هذه الدولة العظمى في العالم بعد شبه الكساد الذي ضربها في الأعوام الثمانية الماضية.
واذا كان صحيحاً، وهو صحيح بالفعل، أن سياسة واشنطن في المنطقة تبدأ وتنتهي عند الأمن الاسرائيلي، وما يمكن أن يشكله من تهديد له امتلاك ايران سلاحاً نووياً، فليس اهتمامها بمنع ذلك ما يثير علامة استفهام لا لدى الرأي العام الأميركي ولا في العالم الغربي عامة ولا حتى في روسيا أو الصين.
وعملياً، لا يختلف الأمر كثيراً لدى أي من الدول الـ5 الأخرى التي شاركت في المفاوضات، وتالياً في توقيع الاتفاق، لا بالنسبة للسوق الايرانية الواعدة بعد عقود من العقوبات الاقتصادية والمالية والسياسية التي فرضت عليها، ولا كذلك بالنسبة لاسرائيل وأمنها الذي يعرف الجميع أنه يتقدم على ما عداه في سياسات هذه الدول.
أما في ما يتعلق بإيران، وكانت قد شارفت على الافلاس عندما قررت بدء التفاوض مع الدول الـ6 حول ملفها النووي، فلا ريب في أن رغبتها بالاتفاق ومصلحتها فيه تفوقان أية رغبة أو مصلحة أخرى. لذلك فإنها قدمت من التنازلات ما كانت قد رفضت تقديمه في السابق… وإن بدعوى أن برنامجها النووي سلمي في الأساس من ناحية، وأنها لم تكن تنوي انتاج أي سلاح نووي لأن عقيدتها الاسلامية تحرم عليها ذلك من ناحية ثانية.
لكن الأهم من هذا بالنسبة الى ايران، أنها عملت طيلة الفترة الماضية (فترة التخصيب والتجارب النووية) على اقامة «شبكة نفوذ» سياسية، ميليشيوية وعصبوية مذهبية، في أكثر من بلد عربي تمهيداً لادعاء أنها باتت دولة اقليمية نافذة في المنطقة… باعتراف دول المنطقة والعالم أو من دون هذا الاعتراف.
وفي التكتيك السياسي، لم يكن المرشد الايراني علي خامنئي والمقربون منه يفعلون سوى أنهم يوجهون رسائل الى مفاوضيهم من الدول الست عندما كانوا يتحدثون عن سقوط أربع عواصم عربية في يد ايران، أو عن قيام «الامبراطورية الفارسية، وعاصمتها بغداد»، أو عن لا جدوى البحث عن حل في العراق أو سورية (فضلاً عن لبنان واليمن) من دون أن تكون ايران جزءاً منه.
من هو المستفيد الأكبر من الاتفاق؟ ربما كانت ايران في ظروفها الراهنة، بعد عزلة سياسية دولية مديدة وعقوبات اقتصادية ومالية خانقة عاشتها في الأعوام الـ36 الماضية، لكن الآخرين حققوا بدورهم كل ما كانوا يريدون: استثمارات طائلة في النفط والغــاز الايرانيـيـن، وإعادة بناء اقتصاد بلد كان على شفا الانهيار قبل الاتفاق، وكبح جماح برنامج نووي مثير للجدل على مدى خمسة عشر عاماً على الأقل.
وبهذا المعنى، هو «اتفاق مصالح» على النسق الذي حــدده كبيــر ساسة بريــطانيا ونــستــون تشرشل عندما تحدث عن أنه «لا صداقات دائمة بل مصالح دائمة». ويبــقى على العـــرب أن يـــحددوا بدورهم كيف وأين ومتى وبأي اسلوب يحققون مصالحهم.
وغني عن البيان، انه لا مشكلة نووية عربية مع النظام الايراني الحالي، انما مع سياساته التي عملت وتعمل على تفتيت نسيج المنطقة الاجتماعي والسياسي… وقد نجحت في ذلك في بعض بلدانها على الأقل.
تلك هي المشكلة، وليست في أن الدول الـ6 باعت إيران المنطقة أو أنها عقدت معها اتفاقات تحت الطاولة.