سُئل اللاهوتي الكاثوليكي هنزكونغ Hans Kung عما يعتقده الأمر الأهمّ لكنيسة الألف الثالث فأجاب: «الأمر الأهمّ في نظري اليوم هو التالي: «لا بقاء لعالمنا من دون أخلاقية عالمية، ولا سلام بين الأمم من دون سلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان من دون حوار بين الأديان».
هذا الجواب يختصر إلى حدّ كبير ضرورة قيام حوار بين الأديان والثقافات وبينها بالتأكيد الحوار المسيحي – الاسلامي. أكثر من ذلك فهو يرى في هذا الحوار الفرصة الوحيدة المتاحة أمام البشرية للوصول إلى صياغة أخلاقية عالميّة وتحقيق السلام بين الأمم.
طبيعة الحوار وهدفه
بين الأجوبة المتعددة والمتنوعة يبرز جواب اللاهوتي رايمون بانيكار Raimon Panikkar وفيه: «انّ الحوار بين الأديان ليس استراتيجية لتحقيق الفوز لحقيقة ما، وإنما هو مسار للتفتيش عن هذه الحقيقة ولتعميقها مع الآخرين». وبوضوح أكثر، «ليس هدف الحوار ردّ غير المسيحيين إلى الدين المسيحي والازدياد العددي للجماعة المسيحية، بل الاغتناء المتبادل والمشاركة الروحية مع الذين لا ينتمون إلى ديننا». والتحدي المطروح على المسيحيين والمسلمين في هذا الحوار يختصره هاننزكونغ بالقول: «إلى أي مدى يستطيع المسيحيون والمسلمون، باعتبارهم مواطنين في دول معينة، ومتساوين في الرعوية، أن يعلنوا على نطاق شامل اجماعاً أدبياً في اخلاقية لا تتجزأ تربط بين الناس وتكون ملزمة للبشرية جمعاء».
الحوار المطلوب إذاً، هو حوار العقل والقلب المنفتح على الله والانسان والتاريخ وليس بالتأكيد حوار العصي والفؤوس! ومثل هذا الحوار الراقي ينبغي أن يسير دائماً على خطّين لكي ينجح الحوار الأنتر- ديني والحوار الأنترا- ديني.
الحوار الأنتر- ديني
1 – الحوار الأنتر- ديني Inter- Religieux هو الذي يجري بين الأديان القائمة ولعل أبلغ تعبير عنه: ضرورة والتزاماً وأهدافاً، جاء في كلام البابا يوحنا بولس الثاني في أثناء زيارته لسوريا (8/5/2001) حيث كانت زيارته للجامع الأموي «خطوة مهمة على طريق الحوار بين المسيحيين والمسلمين» وحيث دعا الشبيبة إلى سلوك الدروب الصعبة. «دروب الشهادة والشجاعة وخدمة القيم التي تستحق أن يعيش الانسان ويبذل حياته من أجلها وهي الحقيقة والايمان وكرامة الانسان والسلام والمحبة».
لقد أكد الحبر الأعظم لدى وصوله إلى مطار دمشق على «أننا نعيش اليوم وسط عالم يزداد تشعباً وتفاعلاً، تظهر الحاجة الملحّة فيه إلى ارساء قواعد روح حوار جديدة للتعاون بين المسيحيين والمسلمين. إننا نعترف بالاله الأوحد خالق البرايا بأسرها، ومعاً علينا واجب الاعلان للعالم أنّ اسم الإله الواحد هو السلام والدعوة إلى السلام. فتتراجع القوّة أمام الحوار».
وذهب قداسته أبعد حين شرح نظرته إلى الحوار الأنتر- ديني المسيحي – الاسلامي بالقول: «أرجو حقيقة أن يكون لقاؤنا اليوم في الجامع الأموي علامة تصميمنا على المضي في الحوار بين الكنيسة الكاثوليكية والاسلام. إنه لمن المهم أن يتابع المسيحيون والمسلمون البحث معاً في القضايا الفلسفية واللاهوتية حتى يصلوا إلى معرفة المعتقدات الدينية لدى بعضهم البعض بشكل أكثر موضوعية وعمقاً. إن الحوار بين الأديان يكون أكثر فاعلية عندما ينبع من خبرة العيش معاً في الجماعة نفسها وبالحضارة نفسها». وختم الحبر الأعظم نظرته بالقول: «رجائي الحار أن يقدّم المسؤولون الروحيون والعلمانيون المسلمون والمسيحيون- ديانتينا العظيمتين كديانتين ملتزمتين حواراً يسوده الاحترام وألا يقدّموهما مرة أخرى كديانتين متصارعتين». «وليس على الشباب استعمال الدين نفسه لاثارة الحقد والعنف وتبريرهما. فالعنف يهدم صورة الخالق في خلائقه: فحذار اعتباره ثمرة اقتناع ديني».
الحوار الأنترا- ديني
2 – الحوار الأنترا- ديني Intra- Religieux هو شيء آخر، إنّه لا يتناول العقيدة واللاهوت والديبلوماسية لدى هذا الدين أو ذاك أو بينهما، بل هو «أنترا» أي أنه داخلي في داخل المؤمن نفسه.
«فإذا لم أكتشف في ذاتي التربة حيث الهندوسي والمسلم واليهودي والملحد والآخر يمكن أن يكون له مكان في قلبي وفكري وحياتي فإنه يتعذّر عليّ بالتأكيد إقامة حوار حقيقي معه»، بعد ذلك «إذا كنت لا أفتح قلبي ولا اعتبر الآخر ليس آخراً وإنما جزء من ذاتي يوسّع ويكمل أناي (Mon moi) فإني لن أنجح في الحوار… إذاً الحوار الأنترا- ديني الحقيقي يبدأ في ذاتي وهو تبادل خبرات أكثر منه بحثاً عقائدياً… فإذا لم ننطلق من هذه القاعدة فليس من حوار ديني ممكن وإنما مجرّد ثرثرة». وكان البابا يوحنا بولس الثاني في الارشاد الرسولي: «رجاء جديد للبنان» قد شدّد على الحوار ليس فقط كبديل للصراع بل كمدخل إلى المصالحة والمحبة والسلام بين اللبنانيين. فهو «حوار حقيقي» وحوار مسيحي إسلامي صادق «كسبيل لا بدّ منه للعيش المشترك وبناء المجتمع»، وهو «حوار يجب أن يتواصل على عدة مستويات، وهو منفتح على مسلمي لبنان ومسلمي سائر البلدان العربية» وهو شرط ضروري «لبناء وبقاء لبنان ديمقراطي منفتح على الآخرين في حوار مع الثقافات والديانات».
الجامعة معقل الحوار!
حُدّد دور الجامعة في عالم اليوم «بالعمل على تطوير المعرفة وتعزيز الخير الانساني في تنمية العقل واشاعة البحث الحر والحوار المنفتح». وجرى التوكيد على أنّ الجامعة هي معقل الحوار الأول للنشاط الفكري الانساني لأنّها «البيئة التي تجري فيها باستمرار مناقشة جميع الأفكار والحاجات والقيم والمؤسسات»… مما يجعل منها مؤسسة ريادية فاعلة «تمثّل في ذاتها نظام التجديد والابداع».
من جانبها أكّدت الكنيسة الكاثوليكية في رسالة البابا يوحنا بولس الثاني «في قلب الكنيسة» (Ex cordi Ecclesiae) في العام 1990 أنّ الحوار هو مهمة أساسية من مهام الجامعة الكاثوليكية لخدمة الثقافة والمجتمع والكنيسة. فهي مدعوة لأن «تلتزم الحوار بين الأديان والعقل حيث يلتقيان في الحقيقة الواحدة». أكثر من ذلك «إنّها المكان الأول والأفضل لقيام حوار مثمر بين الانجيل والثقافة»، «وبين الفكر المسيحي والعلوم المعاصرة» وهي مدعوة، ليس فقط لتأمين الحوار الثقافي بل والحوار المسكوني «من أجل الوحدة بين جميع المسيحيين والحوار بين الأديان لإبراز القيم الروحيّة المتواجدة في مختلف الأديان».
من وحي هذه التوجهات على كل جامعاتنا أن تفتح أبوابها للحوار إلى أبعد الحدود مع العالم العربي والاسلامي والغربي ولم ترفض أحداً لأسباب دينية أو سياسية بل التزمت بقيّم المحبة والمعرفة التي تمنحها مسؤوليتها ورسوليتها. فهي ملتزمة بقضايا الانسان في محيطها دفاعاً عن الحرية والكرامة والسيادة الوطنية على هديّ بطاركة الشرق (لا بطاركة السياسة)، فهي كانت وستبقى إلى جانب القرار الحواري الحضاري الفاعل في مجتمعها لانماء روح الحرية والديمقراطية والعدالة وحق الافتراق ملزمة قضايا طلابها في لبنان والعالم العربي والغربي وهي قضايا الحياة والمصير والتقدّم وليست كما يقول هيغل «مجرد ثرثرة أمام جديّة التاريخ».