ثمة واقع جديد، لم يُعترف به علنا، لكن كل دروب التطورات تأخذ الى طاحونته. ليس بجديد أن تنتقل قيادة الجيش من موقع أمني أول يفترض بالموارنة أن يكونوا «أم الصبي» فيه، الى مسألة وطنية تتشارك كل المكونات الطائفية في ترتيبها، ولكن المستجد هو انضمام هذا الاستحقاق الى سلّة التفاهمات الوطنية العريضة التي يعجز عن بتها إلا باتفاق كبير يأتي أولاً برئيس للجمهورية ومن ثم برئيس للحكومة، ومن بعدهما قائد للجيش.. وإذا «تشاطر» المسيحيون يحصّلون قانوناً للانتخابات ينصفهم.
عملياً، لم يصبح الأمر عرفاً بعد، لكن المؤشرات المتلاحقة تدل على أنّه صار من الصعوبة إخراج قيادة الجيش من هذه الحلقة المترابطة. ميشال عون يحاول بكل ما أوتي من قوة لافتعال الفصل، أو الحؤول دون تكريس التوأمة بين رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش.
غير أنّ التطورات الدولية والإقليمية التي جعلت من مكافحة الإرهاب بنداً متقدّماً على غيره في جدول أعمال الدول الكبرى والصغرى، سلّطت الضوء على الموقع الأول في قيادة الجيش، وأشغلت أنوف عواصم القرار لتصير شريكة فعلية في تزكية اسم الضابط الماروني الذي ستكون له إمرة الجيش.
كما أنّ تحوّل قائد الجيش الى مرشح غير معلن لرئاسة الجمهروية زاد من حرارة الاهتمام باسم الضابط الذي سيصير عماداً. كل هذه الاعتبارات لا تسري مثلاً على الموقع الأمني السنيّ أو حتى الشيعي. يكفي أن يتفق مثلاً سعد الحريري وميشال عون على اسم ضابط سني في قوى الأمن الداخلي كي يحال اللواء ابراهيم بصبوص الى التقاعد ويجلس مكانه.
مع قيادة الجيش، الأمر صار مختلفاً. سيضطر رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» الى استخدام كل الأسلحة المتاحة أمامه كي يخرج القيادة من باقة التفاهمات الكبرى ويبقيه في إطار توافق محلي موضعي يجمعه بـ «تيار المستقبل»، بعدما ضمن وقوف الحلفاء الى جانبه من دون أي تردد.. لا بل من مصلحته أن يبعد القيادة عن مرمى الرئاسة.
هكذا، لا يزال الرجل في مربع الانتظار، يحاول طرد «الأفكار السيئة» التي تنبئه بأنّ تردد الحريري في إبلاغه الجواب النهائي لا يبشّر بالخير. ويترقب.. سمع من «الشيخ سعد» بالمباشر أو عبر الموفدين الكثير من الكلام المعسول، ولكن «الفول لم يدخل بعد المكيول».
ولكن أن يرمي العونيون كتاب «الإبراء المستحيل» وراءهم وأن يشطبوا كل خطابهم الناري بحق السياسة المالية لآل الحريري بشحطة «ثمن» لن يقبضوه، فهذا الأمر لن يدفع ميشال عون الى الاستكانة. لا يمكنه، أقله أمام جمهوره، أن يخرج خالي الوفاض. لا رئاسة ولا قيادة ولا حتى انتصار موضعي يعوض كل التقديمات والتسهيلات التي فرشها أمام الشيخ سعد في طريق التودد اليه!
لن يحتمل الرجل هذه النهاية، ولن يسمح لها بأن تكون تراجيدية. عليه تحقيق مكسب أو أن يقلب الطاولة قبل انسدال الستارة. يعرف الحريريون هذا السيناريو جيداً، ولهذا يدارون الجنرال برموش العين ويصونون كل صغيرة أو كبيرة معه.
ولكن لقيادة الجيش حسابات أخرى، لا يبدو أن بمقدورهم تجاوزها. حتى الآن يتصرفون على هذا الأساس. ولهذا يحاولون فصل مسار قيادة الجيش عن مسار مديرية قوى الأمن الداخلي، بعدما اعتقد سعد الحريري لوهلة ما أنّ من مصلحته ربطهما ببعضهما ببعض، إلا أنّه يبدو أنّ تعديلاً ما طرأ على الخطة، وصار من الأفضل ترك كل استحقاق يسير على هداه كي لا يُلزم نفسه بأي اتفاق مع «التيار الوطني الحر» يقوده في نهاية المطاف الى تزكية اسم شامل روكز الى قيادة الجيش.
في حين أنّ مصلحة الجنرال عون هي ربط الاستحقاقين كي لا يقدم على أي خطوة مجاناً. ومع ذلك، هناك من يرجّح أن يحرر «الزرق» أنفسهم من أي تعهد مع العونيين، من خلال ترك الضبابية تلف موقفهم من مسألة قيادة الجيش لمنح أنفسهم مهلة زمنية إضافية متاحة حتى أيلول المقبل موعد إحالة العماد جان قهوجي الى التقاعد.
في هذه الأثناء، بإمكان وزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي عاد عن حماسته المبكرة لإعداد قرار التمديد للواء بصبوص، أن يتقدّم من مجلس الوزراء بأكثر من اسم لضباط مرشحين لتولي قيادة قوى الأمن الداخلي، كما تقتضي القاعدة، فيترك المسألة للتوافق الحكومي.
فإذا نجح التعيين في اختبار التوافق على طاولــة تمام سلام، كان به. وإذا تعثّر تُحال القضية الى الحــلول البديلة، سواء كانت من نوع تسليم المديرية لقاعدة الأقدمية بين ضباط الملاك، أو حتى لمخدر التمديد كورقة أخيرة.
لا يبدي «المستقبليون» أي تردد في ترك السفينة ترسو على البر الذي تختاره الأغلبية الحكومية. لا يعنيهم تفضيل خيار على الآخر ما دام وزير الداخلية هو الوصي على المديرية. ولهذا ينفضون عن أنفسهم أي مسؤولية لتغليب سيناريو على الآخر، هرباً من الالتزام باتفاق مسبق.
وبعد عبور «جسر» المديرية، يُترك ملف قيادة الجيش لحينه. في تلك اللحظة، بإمكان «المستقبليين» التحجج بأي عذر لوقف قرار التعيين حتى لو قالوا بالعلن إنهم مؤيدون لوصول روكز. يكفي الاستعانة بموقف «القوات» غير الموجودة على طاولة مجلس الوزراء لعرقلة القرار.
فـ«القوات» لم تفصح عن موقفها من المسألة، لعدم رغبتها في خربطة الحوار الثنائي الحاصل مع «التيار الوطني الحر»، لأنها تدرك جيداً أن الوقوف علناً بوجه مساعي الجنرال لتكريس التعيين، ولمصلحة روكز تحديداً، سيؤدي حكماً الى وقف المسار الحواري أو فرملته. وهذا ما لا تريده راهناً. ولكن في لحظة الحسم قد تفعلها.
أمس الأول كان «النائب المغترب» عقاب صقر يقول صراحة إنّ ميشال عون لا يمكن أن يصل الى رئاسة الجمهورية، مؤكداً أنّ «التمديد الآن أفضل بكثير من أن نأتي بقائد جيش عوني يشعل البلد».. فهل نطق الرجل بلسان «شيخه» أم مهد له الطريق؟