«الحراك» يقلق «الدول».. والسلطة تنقذ نفسها بـ«الحوار»!
يصعب النظر إلى طاولة الحوار الجديدة بمعزل عن مسؤولية الجالسين إليها من رؤساء الكتل النيابية المختلفة وهم في الحكومة بالأصالة أو بالوكالة، عن خطورة الأوضاع التي يعيشها لبنان منذ زمن بعيد يشمل أيام كان للجمهورية رئيس ومجلس نواب كامل العدد يجتمع ويقرر وحكومة بنصاب ثلاثيني، ثم بنصاب الأربعة والعشرين وزيراً ـ رئيساً، قبل تصدعها لأسباب غير مفهومة إلا في إطار المزايدة السياسية بمردود طائفي.
… والغياب المتفرد لكتلة نيابية من بين المدعوين إليها لا يخلي طرف «الغائب» من هذه المسؤولية حتى لو كان العذر الدعوة القطرية الكريمة بعد الدعوة الملكية المذهبة إلى الرياض.
إن الذين يتلاقون من حول طاولة الحوار الجديد ـ والغائب ضمناً ـ هم المسؤولون عن تعطيل مجلس النواب، ثم تعطيل الحكومة، لأن خلافاتهم غير المفهومة غالباً هي التي بررت بداية التعطيل الأول، وإن كانت لم تمنع انعقاد مجلس النواب لمرة يتيمة من أجل التمديد لأنفسهم لسنتين… وبعد اطمئنانهم إلى هذه المكرمة التي أسبغوها على تمثيلهم الديموقراطي لناخبيهم افرنقعوا، بذريعة «الخلافات العميقة» التي تمنع تلاقيهم ـ مرة أخرى ـ وبدأوا في ممارسة لعبة التعطيل بالتناوب، فإذا حضر فريق غاب آخر، وتم تعليق التشريع وصولاً إلى استحالة انتخاب رئيس جديد للجمهورية البلا رأس.
يمكن للمدعوين إلى الحوار (الجديد) سرد مجموعة من المبررات الشكلية التي تبدأ من داخل الداخل الطوائفي، ولا تنتهي بالصراعات الدولية وموقع الاتفاق النووي الإيراني فيها، والحرب في سوريا وعليها التي يتصادم فيها الغرب الأميركي مع الشرق الروسي + إيران، والأزمة المستفحلة في العراق، والحرب السعودية على اليمن… ولكن ذلك لا ينفي مسؤوليتهم المباشرة، كنواب، ثم كحكومة تضم أكثرية كتلهم، عن الشلل الذي ضرب مؤسسات الحكم فأقعدها عن الإنجاز… حتى في أمر بسيط المظهر عميق الضرر على المجتمع كله: النفايات!
على أن الرعايا يعرفون أن مسائل حياتهم اليومية ليست مدرجة على قائمة أسباب الصراع الدولي، سواء أكان أميركياً ـ روسياً، أو أميركياً بل غربياً ـ إيرانياً، ولا صلة لها بالحروب التي تملأ ساحات العواصم العريقة في الدنيا العربية بدماء شعوبها.
كذلك فإن هؤلاء الرعايا لا يعرفون، على وجه اليقين، مدى الترابط في النتائج بين اجتياحات «داعش» بالأساس ومعها «جبهة النصرة» في بلاد الشام، وبين البطالة غير المبررة لمجلس النواب أو التعطيل المقصود لعمل الحكومة والذي قزّم منصب رئاسة الجمهورية وجعله مطلباً فئوياً.. مع أن موقعه يجسد الوحدة الوطنية أكثر من تجسيده الزعامة المارونية بالمعنى الشعبوي… بل إن «الزعامة» بهذا المعنى غالباً ما كانت تحول بين من يفترض في نفسه أنه يمثلها وبين الرئاسة، لأن أول شرط للوصول إلى السدة هو «الاعتدال»، في بلد يضم بين جنباته 18 طائفة، تتوهم أو يُراد لها أن تفترض في ذاتها تمثيل المجتمع الدولي بأسره، الأقوى فالقوي، مع الأخذ بالاعتبار الأقرب فالقريب وصولاً إلى البعيد فالأبعد!
بل المنطقي والعملي أن تكون الأزمات في الخارج المحيط دافعاً إلى تسريع الإنجاز وتدارك الخلل في مواقع السلطة، لا سيما رأسها، لتمتين الوضع الداخلي وتحصينه بالوحدة الوطنية.
وصحيح أن الموقع السامي لرئاسة الجمهورية أساسي في النظام وفي تحصين التوازن الوطني في السلطة، لكن المجتمعين إلى طاولة الحوار، بعد يومين، يسيئون إلى كرامة هذا الموقع بقدر ما يتهربون من مسؤوليتهم عن هذه الإساءة.
ولنتمثل للحظة أن الجالسين إلى طاولة الحوار النيابية هذه قد واجهوا ممثلين للانتفاضات الشعبية التي فاضت بها شوارع بيروت، ومناطق أخرى، خلال الأيام العشرة الأخيرة، فماذا تراهم سيقولون لهم تبريراً لقصورهم وتقصيرهم في إنجاز مهماتهم البديهية.. وبماذا سيجيبون لو أن الشباب قالوا لهم: أنتم لا تمثلوننا لأنكم أهملتم مطالبنا البديهية بدءاً من حل معضلة «الزبالة»، إلى انتخاب رئيس للجمهورية في الموعد الدستوري المفترض، فضلاً عن إقرار المشاريع الحيوية المتراكمة في أدراج اللجان النيابية التي تنتظر منذ ما قبل التمديد لأنفسكم كنواب، ومنذ ما قبل الحكومة الحالية؟!
وبماذا سيرد المتحاورون على الشباب حين يحملونهم المسؤولية عن تشويه صورة لبنان الوطن الجميل وأهله الذين بهروا محيطه برقيّهم وحرصهم على سلمية تحركهم، بقدر ما فضحوا نقص الكفاءة (بل الوطنية) في الطبقة السياسية ومخادعتها الناس، والهرب من مواجهة مسؤولياتها في معالجة الأزمات المتوالدة من ذاتها، والمخاطر الاقتصادية الجدية وأبرزها تفاقم الدين العام والعجز عن تأمين المرتبات ونفقات التشغيل.
أليس من حق هؤلاء الشباب أن يقولوا للمتحاورين العاجزين، بل المتخاذلين والهاربين من اتخاذ قرار ينهي غربتهم عن شعبهم: أنتم لا تمثلوننا! بل أنتم تخونوننا وتغدرون بنا، فاستقيلوا من بطالتكم وارحمونا وارحموا ما تبقى من هذه الجمهورية المحاصرة بمخاطر مصيرية. ارحمونا وحلّوا عنا!
ومع أن زمن المعجزات قد ولى فإن الهرب من اليأس سيبقي بقايا أمل في إنقاذ يبدو مستحيلاً، بشهادة المتحاورين حول جنس الملائكة، بعد غد!