Site icon IMLebanon

ضربات «متقطعة» ورقص استفزازي في سوريا

 

بغضّ النظر عن الإصابة أو الخطأ في توصيف ما يجري بين إسرائيل وإيران فوق الأجواء السورية، يمكن القول موضوعياً إن المواجهة بينهما تقع بين منزلتين: إما مواجهة تؤذن باندلاع حرب عسكرية مباشرة تنقلب إلى صراع إقليمي ودولي لا تُحمد عقباه، وإما حرب استنزاف مفتوحة «ومتقطعة»، تجري بضربات محددة في أهدافها وظرفية في توقيتها. الجزم بين الخيارين صعب لأن الانفجار الكبير له عوامله الكامنة ويؤججه عامل التصعيد غير المقصود، والاستنزاف المفتوح والمبرمج له أيضاً تبريراته.

مهما تكن طبيعة هذه المواجهة، الأكيد أنها تدور في سياق روسي أميركي وسياسة كلتا الدولتين حيال إيران من جهة، وفي سياقات داخلية إسرائيلية من جهة أخرى. ولا بد في هذا الإطار من التذكير بالعناوين التالية:

أولاً، قلق إسرائيل من عدم ثبات سياسة الولايات المتحدة في سوريا، وما يبدو أنها قرارات تتخذها دون التنسيق مع حليفها التاريخي في المنطقة، بدءاً من قرارها الانسحاب من سوريا دون الأخذ في الاعتبار تبعات هذا الأمر على تل أبيب، إلى تراجع ضغطها للحد من الوجود العسكري الإيراني فيها ومواصلة «حزب الله» تعزيز مواقعه حول دمشق. يضاف إلى ذلك تبدلات الموقف الأميركي من تركيا بين السخونة والبرودة وما أسفر عنه من تمدد تركي على حساب الأكراد، ومدى قبول واشنطن التقارب بين أنقرة وموسكو والعودة إلى مسار آستانة. وعلى الرغم من أن هذا الوضع قد يدفع إسرائيل إلى الإمساك بزمام الأمور بأيديها وشن حرب مباشرة ضد إيران، فإنها تدرك من جهة أن حرباً كهذه لن تكون حرباً تقليدية بين جيشين نظاميين، بل سيشارك فيها مع الجانب الإيراني خليط من الوكلاء، وتدرك من جهة أخرى صعوبة الاعتماد على إدارة أميركية متقلبة ومشتتة داخلياً لا سيما لجهة الموقف من إيران.

في هذا النطاق، ثمة مساران داخل الإدارة الأميركية: الأول، يمثله الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويهدف إلى الضغط على إيران بشتى الوسائل للوصول إلى تسويات أو تفاهمات مع النظام الإيراني. والثاني، يمثله رئيس مجلس الأمن القومي جون بولتون والذي يهدف إلى تغيير النظام بل اقتلاعه عبر استعمال كل الوسائل بما فيها العمل العسكري. هذا المسار صعب التحقيق لأسباب عدة لا مجال لتعدادها. ومع أن مسار ترمب أكثر واقعية، إلا أنه يتناسى قوة ونفوذ القوى المتشددة داخل النظام الإيراني، والتي قد لا تكون راغبة في التسوية أو التطبيع مع أميركا وحلفائها والعودة إلى المجتمع الدولي كدولة عادية غير مارقة، كما يرغب بعض الساسة في واشنطن تصديقه.

ثانياً، تنظر إسرائيل بقلق إلى التخبط الروسي في إدارة الشأن السوري إنْ داخلياً أو بين الأطراف المنخرطة فيه، خصوصاً بعدما تبيّن التردد أو العجز عن احتواء الدور الإيراني في هذا البلد. فالعملية الإيرانية الأخيرة والمتمثلة بإطلاق صاروخ من منطقة يُفترض أنها خالية من الإيرانيين حسب الوعود الروسية، تدل على أن تعهدات موسكو بشأن إبعاد القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها مسافة 70 كلم من الحدود مع إسرائيل لم تتحقق بعد.

ويبدو أيضاً أن روسيا واقعة بين مطرقة ضغوط أميركية وضغوط إقليمية من دول وازنة يهمّ موسكو أن تحافظ على مصالحها معها كالسعودية، وسندان حاجتها إلى إيران ليس فقط في سوريا، بل أيضاً في أكثر من منطقة في العالم كالقوقاز وآسيا الوسطى. وهي تدرك أيضاً صعوبة تحجيم الدور الإيراني في سوريا، خصوصاً بعد القوة التي أظهرتها وميليشياتها على الأرض، فكيف باقتلاعها على ما ترغب واشنطن وإسرائيل. في أي حالة، من الواضح أن السياسة الروسية تعجز في آن واحد عن كبح جماح إيران والالتزام بأمن إسرائيل، وعدم التفريط في علاقاتها الواعدة مع الدول العربية. ومع ذلك، وبالنظر إلى الوجود الروسي في سوريا فإن تفكير إسرائيل في خيار شن حرب مباشرة ضد إيران تنطلق من الأراضي السورية ليس بالخيار السهل.

ثالثاً، ستشهد إسرائيل في أبريل (نيسان) المقبل انتخابات عامة ستؤثر نتائجها على القرار الإسرائيلي، وفقاً لمن سيتمتع بالغالبية في الكنيست ومن سيتولى رئاسة الحكومة والإمساك بقرار الحرب والسلم. ومن هنا يرى بعض المراقبين أن تعيين الجنرال آفيف كوخافي الخبير في الشؤون اللبنانية رئيساً للأركان، مؤشر لاحتمال شن إسرائيل حرباً مباشرة ضد الوجود الإيراني في سوريا انطلاقاً من لبنان. إلا أن ذلك يبقى صعباً لأن ما يحرك نتنياهو حالياً هو شؤون انتخابية وليست حربية، إضافة إلى العوامل الأميركية والروسية التي سبق ذكرها.

في جميع الأحوال يبقى الترقب سيد الموقف، لأمرين: من جهة معرفة حقيقة الموقف الإسرائيلي من إيران، وهل تهدف إلى مجرد تطويعها واحتوائها عبر الضغوط العسكرية وغير العسكرية، أم أنها مقتنعة بأن إيران تشكل تهديداً وجودياً لها لا بد من اقتلاعه من المنطقة عبر العمل العسكري. ومن جهة أخرى، ارتباط أي قرار إسرائيلي بأميركا وروسيا، أي مدى دعم الأولى في حال اندلاع حرب مباشرة ضد إيران في سوريا مع ما قد تجرّ معها من تداعيات في الإقليم، ووجود الثانية في سوريا والذي على الغالب قد لا يسمح بهزيمة كاملة لإيران وحلفائها، كما لن يسمح بتعريض أمن إسرائيل لتهديد جدي.

تدرك كل من إسرائيل وإيران خطورة الدخول في حرب مباشرة، ومن المتوقع أن تستمر لعبة الرقص الاستفزازي بينهما، تحت سقف تجنب ما أمكن الاصطدام بالمصالح الروسية في الإقليم وفي سوريا تحديداً وواقع التخبط الأميركي. تدرك موسكو تماماً أن نفوذها لن يستتبّ لا في سوريا ولا في جوارها إلا إذا نجحت في إقامة مظلة يتنافس ويتطاحن ويعمل تحتها على تسويات مرحلية المنخرطون مباشرةً وغير مباشرة في النزاع السوري. وحتى لو كُتب النجاح لهذه المظلة الروسية، فمن الأرجح ألا تكون بديلاً عن المظلة الأميركية المعهودة، بل قد تطلبها روسيا وتسعى إليها وحتى تشاركها في عدد من المنافع والمصالح وفي المسؤولية في إدارة الصراعات في الشرق الأوسط.

قصارى الكلام، هناك قول محق يتردد في أكثر من محفل يفيد بأن الحرب الشاملة والمفتوحة عالية التكلفة على كل من يغامر في الانخراط فيها طوعاً أو إكراهاً. من هنا البديل عن فتح أبواب جهنم وحتى هذه اللحظة، هو اعتماد الضربات «المتقطعة» وبالقطعة والرقص الاستفزازي «على حافة الانفجار» وضبط الخسائر على أنواعها. فكل طرف سيعض على جرحه، ويكتفي ببعض المكاسب التكتيكية والدعائية إلى أن تدقّ ساعة رسم خريطة جديدة في الشرق الأوسط.