تحوّل شعار الحوار الداخلي في لبنان، على الأقل منذ العام 2005، الى غطاء لسياسة هي في الحقيقة «سياسة الهروب الى الأمام» في التعاطي مع الشرعية الدولية وقراراتها بدلاً من أن تكون سياسة البحث عن جوامع مشتركة يتفق عليها اللبنانيون لمعالجة مشكلاتهم الداخلية.
بعد قرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي تضمّن ثلاثة محاور رئيسة هي وجوب احترام الدستور اللبناني من خلال انتخاب رئيس للجمهورية، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، ونزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، إنبرى مَن يعتبر الشق المتعلّق بسلاح «حزب الله» مسألة لبنانية داخلية تُحلّ بالحوار بين اللبنانيين حفاظاً على «الإستقرار الداخلي والسلم الأهلي»، لا من خلال قرارات يفرضها مجلس الأمن الدولي.
غير أنّ الحوار الذي قاده الرئيس نبيه برّي يومها لم يكن في الحقيقة سوى كسب للوقت في محاولة لتمييع الإندفاعة اللبنانية الداخلية التي كانت تستفيد من الأجواء الإقليمية والدولية المؤيّدة لاستعادة لبنان سيادته كاملة على أراضيه كلها. وانتهى الحوار يومها بحرب تموز 2006 بعدما قام «حزب الله» بعملية خطف الجنود الإسرائيليين، ومن ثمّ بعملية 7 أيار 2007.
وإذا كانت حرب تموز 2006 قد انتهت بالقرار 1701 الذي يؤكد، من بين ما يؤكده، القرار 1559، فإنّ عملية 7 أيار 2007 انتهت بـ«اتفاق الدوحة» الذي أعاد إطلاق الحوار من أجل البحث في سبل بسط الدولة اللبنانية سيادتها على أراضيها بقواها الشرعية، ولكن هذه المرة برعاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان.
وبعد جولات طويلة في القصر الجمهوري في بعبدا، انبثق عن الحوار المذكور «إعلان بعبدا» الذي أبلغ مضمونه الى جامعة الدول العربية ومجلس الأمن الدولي من دون أن يتأخر «حزب الله» من التبرّؤ منه إعلامياً قبل أن ينقضه عملياً بتدخله العسكري المباشر في الحرب السورية.
كلّ ذلك، لم يؤدِّ الى شطب القرار 1559 الذي يبقى ساري المفعول قانونياً بمفهوم الشرعية الدولية وإن كان «حزب الله» قد نجح في «وقف التنفيذ»، في وقت يُتابع الناظر الخاص الذي يُعيّنه الأمين العام للأمم المتحدة رفع تقارير دولية الى الأمين العام ومجلس الأمن الدولي كل ستة أشهر عن المراحل التي قطعها تنفيذ القرار.
واليوم، يتكرّر السيناريو نفسه مع القانون الأميركي الخاص بمكافحة تبييض الأموال وتمويل المنظمات الإرهابية. فالأصوات التي سبق أن نادت بالحوار الداخلي لحلّ مشكلة السلاح غير الشرعي، تنبري للمناداة بالحوار الداخلي لمناقشة سبل التعاطي مع القانون الأميركي وأيضاً باسم «الحفاظ على الإستقرار الداخلي والسلم الأهلي»، في حين أنّ الهدف الحقيقي هو تخفيف الضغط عن «حزب الله» لكسب الوقت ومساعدته على التفلّت من متطلبات تنفيذ القانون وموجباته.
من هنا، فإنّ الحوار بات مجرّد لعبة سياسية مكشوفة لكسب الوقت والمراوغة في التعاطي مع الشرعيّتين العربية والدولية بدلاً من أن يكون وسيلة لإيجاد آليات لبنانية يتفاهم عليها اللبنانيون للحفاظ على لبنان في قلب الشرعيّتين العربية والدولية.
وهذه اللعبة في الهروب الى الأمام لم تنجح إلّا في إغراق لبنان في مزيد من الرمال المتحركة والأزمات الداخلية والخارجية تحت شعار منع الأزمات الداخلية والخارجية. وهي ستنتهي يوماً بمثل ما انتهت إليه محاولات سابقة للهروب الى الأمام، أبرزها:
– رفض إرسال الجيش الى الجنوب بعد الإنسحاب الإسرائيلي في العام 2000 بحجّة رفض تحويله الى حرس للحدود ليعود ويتحوّل إرساله بعد حرب تدمير لبنان في العام 2006 الى «انتصار» على إسرائيل.
– الإنسحاب السوري من لبنان في العام 2005 بشعار «تنفيذ اتفاق الطائف» للهروب من الإقرار بالقرار 1559 بعدما كان مطلب الإنسحاب السوري من لبنان يُواجَه بشعار «ضروري وشرعي وموقت».
إنّ هاتين التجربتين كافيتان ليتعلم اللبنانيون من دروس الماضي، وليستخلصوا العبر من سياسات «الهروب الى المآزق» التي سبق اعتمادها، وبالتالي لوقف هذه السياسات… فالسعي الى التفلّت من متطلبات الإنتماء الى الشرعيّتين العربية والدولية والإلتزام بما تقرّرانه تحت مسمى «الحوار الداخلي» لم ينتهِ إلّا بحروب ومآس واغتيالات ليعود معارضو الإلتزام بقرارات الشرعيّتين العربية والدولية تحت الضغط الى القبول بالتنفيذ ولو بالترويج لانتصارات زائفة وفارغة من أيّ مضمون وطني، ولينتقلوا بعدها الى مرحلة جديدة من مراحل وضع لبنان واللبنانيين في مواجهة جديدة مع العرب والعالم.
• عضو الأمانة العامة لقوى «14 آذار»