«مفاوضات سلام» الأزمة السورية انطلقت في فيينا باتجاه المجهول – المعلوم. المعلوم أن سوريا أرض نزاع مفتوح مشرّعة الأبواب لتسوية تخصّ العالم بقدر ما تخصّ البلاد وأهلها. والمجهول مضامين التسوية لنزاع لا يشبه أي نزاع آخر، في المنطقة وخارجها، الجديد منها، في ليبيا واليمن، والقديم. كما أن تدخّل الدول الكبرى يخضع لمعايير وظروف لا تشبه تلك التي حكمت تدخّلها في نزاعات المنطقة أو في محاولات إيجاد الحلول لها. مؤتمر فيينا حول الأزمة السورية ليس مؤتمر سلام النزاع العربي – الاسرائيلي في التسعينيات، ولا طائف لبنان، ولا فيينا الاتفاق النووي بين ايران والدول الكبرى، ولا هو شبيه بدور الأمم المتحدة في النزاعين الليبي واليمني. كما أن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، ولا أميركا أوباما تشبه أميركا جورج دبليو بوش. مقاربة إيجاد الحلول تعكس خصوصية النزاع، ومنها غياب الأطراف السورية المعنية عن طاولة المفاوضات، وإن كانوا حاضرين خارجها.
بعد خمسة أعوام من الحروب والدمار والتهجير، من المستبعد أن تعود سوريا الى سابق وضعها، دولة مركزية قوية يحكمها نظام الحزب الواحد، كما أنها لن تعود دويلات على قياس أطراف النزاع. زمن سايكس – بيكو، في حقبة ما قبل الدولة، ولّى، والأطراف الدولية لا يجمعها عدو مشترك أو هدف واحد. فلا حرب عالمية اليوم ولا «رجل مريض» ومهزوم لتوزيع تركته على المنتصرين. روسيا هي الطرف الخارجي الأقوى، إلا أنها ليست وحدها على الساحة، ومكوّنات المجتمع السوري لا يمكن تجاهلها، خلافاً لما كان يحصل في الماضي. العروبة اليوم لم تعد تستر العيوب، فبالإضافة الى المكوّنات المعروفة للشعب السوري منذ نشوء الدولة في عشرينيات القرن الماضي، المكوّن الكردي لا يمكن تجاهله لأسباب عديدة، أبرزها الدعم الدولي والموقع الجيوسياسي على الحدود بين سوريا وتركيا والعراق.
وللنظام السوري دور محوري، على رغم تراجعه، في معادلة الحلّ، خصوصاً لجهة الدولة ومؤسساتها، وفي مقدمها الجيش النظامي. النظام برأس واحد، بينما المعارضة متعدّدة الرؤوس والانتماءات، منها المسلّح المرتبط بالتنظيمات الإسلامية المتطرفة، بعدما خسر «الجيش الحر» مواقعه، ومنها المسالم، داخل البلاد أو خارجها. حلّ الأزمة السورية ممرّه الإلزامي الدولة في نظام لم تتّضح معالمه بعد. ولا تزال «مفاوضات السلام» السورية الحلقة المفقودة، على رغم أنها حجر الزاوية لأي تسوية ممكنة.
أما أطراف الخارج فهي تخوض معارك نفوذ وأثمان داخل سوريا وخارجها. روسيا وإيران تجمعهما مصالح مشتركة في سوريا والمنطقة، وصولا الى أفغانستان. في المقابل، واشنطن وبعض دول الخليج العربي وتركيا في صراع نفوذ حول تفاصيل الحلول وغاياتها، لا يجمعها سوى هدف رحيل النظام. تبقى روسيا، حاملة المفتاح الرئيس (master key) للحلّ، بينما أميركا تحمل مفاتيح شبيهة بوهم «فبركة» مقاتلين معتدلين للتصدي لمحترفي الإبادة الجماعية باسم الدين. في لعبة «الروليت» الروسية هذه المرة أكثر من رصاصة قاتلة، وقد تصيب تركيا ودول الخليج العربي التي أصرّت على إلغاء عضوية الدولة السورية في جامعة عربية ألْغت دورها والجدوى من علّة وجودها. إنها مقاصة أثمان دولية – إقليمية معقّدة بإدارة روسية في البرّ والبحر والجو.
الشرق الأوسط القديم يعود مرفوع الرأس بعد نحو قرن على أُفوله، أداة لحلّ النزاعات، وليس حنيناً الى الماضي. ولم يبق من جديده الموعود سوى طائرات السوخوي، ودليل تدريب مقاتلين معتدلين قد يثير اهتمام هواة الآثار بعد حين. بعد الساحة السورية لن تواجه التنظيمات السلفية المسلحة أزمة بطالة، وستنقل جهادها ضد الكفار الى الشرق الأدنى الذي اشتهر قبل الشرق الأوسط، الى أفغانستان، بعدما وصلت مهمة قوى التحالف الدولي الى خواتيمها. أما ديموقراطية الشرق الأوسط الجديد – القديم فهي مغيّبة في الحلول المرتقبة لأزمات أنتجها «ربيع عربي» أنهك مريديه والمناوئين والمنافقين وكان أبرز ضحاياه العالم العربي، دولاً ومجتمعات.