تخطئ الدول الصغيرة إذا جاءت إلى الأمم المتحدة متوهمة أن العيادة الدولية تملك أدوية سحرية لأمراض أعضائها. هكذا تقول التجارب. لكن عدم قدرة المنظمة على إطفاء كل النزاعات المشتعلة في القرية الكونية لا يعني أنها فقدت أسباب وجودها. وليس سراً أن صحة العيادة نفسها تتوقف على توافق كبار الجراحين العاملين فيها، أي الدول الكبرى، على تشخيص الأمراض وسبل العلاج. وكما يحصل في أي مستشفى؛ فإن التنازع بين الأطباء يطيل إقامة المريض في أوجاعه. وعلى رغم اختلاط النجاحات بالإخفاقات تبقى الأمم المتحدة مرجعاً وملاذاً ومنبراً.
حضور الدول في الأمم المتحدة هو في الغالب انعكاس لحضورها على الساحة الدولية. المنظمة الدولية لا تملك غير سلاح الشرعية تقرأ به الأزمات المفتوحة. وهي في النهاية تجمع أقوياء وضعفاء. ولهذا تخطئ وتصيب وتتأثر وتراعي. لا تستطيع الأمم المتحدة أن تكون مجرد صدى لأصوات الأقوياء. لكنها لا تستطيع أن تتجاهلهم أيضاً لأنها تحتاج إليهم حين تختار فرض هيبتها واحترام قراراتها. تستعير قوتها منهم مرة وتعاني من قوتهم مرة أخرى.
مع انعقاد الدورة الـ73 للجمعية العامة للأمم المتحدة تجدد الحديث عن المنظمة وفاعليتها، والأزمات التي نجحت في حلها، وتلك التي فشلت في احتوائها. ولدت الأمم المتحدة من ركام الحرب العالمية الثانية ومن حلم ألا يسقط العالم مجدداً في تجربة مشابهة قد تتخذ شكل وجبة نووية مدمرة. ومن حسن الحظ أن العالم لم يسقط في الفخ الكبير وتراجع مذعوراً حين كادت أزمة الصواريخ الكوبية تنذر بمواجهة أميركية – سوفياتية مخيفة. والعارفون بتلك الحقبة يصرون على القول إن الأمين العام للأمم المتحدة يومها يو ثانت ساهم في حل تلك الأزمة وإن كانت الأضواء تركزت على طباخين آخرين.
الدبلوماسيون الذين أدمنوا مواكبة دورات الجمعية العامة يتذكرون أن الأمم المتحدة خاضت امتحانات صعبة ونجحت، ليس فقط في البقاء حية، بل في تأكيد أنها حاجة. وحتى الذين يغضبون من المنظمة الدولية بسبب اختلاف حساباتها عن حساباتهم يسلمون في النهاية أن لا بديل في الأفق لصمام الأمان الذي تشكله أو تحاول أن تكونه. عاشت الحرب الباردة والحروب بالوساطة وانفجار خرائط ونزاعات أهلية، وحين فشلت في اجتراح الحلول حاولت ضبط الخسائر وتخفيف المعاناة.
وإذا كان دور المنظمة الدولية البحث عن حلول، فإن مناخ التوتر الدولي كان يحولها أحياناً ساحة للهجمات والحملات.
لم تغب عن ذاكرة الجيل المواكب تلك الخطب الطويلة التي كان فيديل كاسترو يلقيها في عز الحرب الباردة. تلك الخطابات كانت السبب في قرار حصر فرصة المتحدث بربع ساعة فقط يبدأ بعدها بتلقي إشارة ضوئية تذكره. لكن كان هناك دائماً من يتمرد وبينهم مارغريت ثاتشر. وكان مسلسل الخطب التي لا تنتهي بدأ مع كريشنا مينون وزير خارجية نهرو. أطال الوزير وأغمي عليه خلال كلمته، وحين أنعشوه أصر على متابعة خطابه. وكانت هناك إطلالات أخرى مثيرة. لقد رأت الجمعية العامة معمر القذافي ينتهك الوقت المحدد ويفتعل حالة غضب توّجها بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة سارقاً الأضواء. وإليها أيضاً جاء عيدي أمين زاعماً أنه يجيد التحدث إلى التماسيح وممازحتها. هذا من دون أن ننسى حين راح نيكيتا خروتشوف يشاغب ويضرب الطاولة أمامه بحذائه. وحتى الساعة يسأل زوار الأمم المتحدة عن المكان الذي ارتكب فيه رئيس الوزراء السوفياتي هذه السابقة في تاريخ المنظمة الدولية.
نجوم كثر تعاقبوا على منبر الجمعية العامة بينهم نيلسون مانديلا الذي احتفلت المنظمة الدولية في دورتها الحالية بالذكرى المئوية لولادته واستضافة تمثاله رمزاً للتحرر ونهايةً التمييز العنصري. والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي خاطب العالم من منبر الجمعية العامة وناشده ألا يسقط غصن الزيتون من أيدي المقاومين الفلسطينيين.
في الدورة الحالية حُسم موقع النجومية منذ الافتتاح. حيث يكون دونالد ترمب تكون الأضواء مسلطة عليه. جنرال «تويتر» يتقن أصول اللعبة. ملاكم متمرس لا يغادر الحلبة. يوجه الضربات ويتلقى الضربات. تغريداته موضع انتظار يومي في العالم. لم يسبق أن رأى العالم رئيس دولة كبرى يدير أعقد المعارك والأزمات عبر جمل قصيرة سرعان ما تحتل الشاشات وصفحات المواقع.
من منبر الجمعية العامة وقاعة مجلس الأمن، خاطب ترمب الأميركيين والعالم. إنها طريقة جديدة تماماً في التعاطي العلني مع العلاقات الدولية. طريقة جديدة وقاموس جديد. بعبارات تصلح لـ«تويتر»، تحدث ترمب عن الحرب التجارية مع الصين. وكذلك عما أنجز مع كوريا الشمالية. وعن العقوبات المقررة على إيران بسبب طموحاتها النووية والصاروخية وانتهاجها سياسة تزعزع استقرار الشرق الأوسط. لغة جديدة فعلاً حتى في التخاطب مع الحلفاء الأوروبيين والأطلسيين.
أصحاب الخبرة في رصد أداء زوار المنظمة الدولية اعتبروا إطلالة ترمب ناجحة من ناحية خطف الأضواء وتأكيد استمرار أميركا في الموقع الأول. قالوا إن إطلالته ذكّرتهم بإطلالة رونالد ريغان من المنبر نفسه. رأى هؤلاء أيضاً أن ترمب نجح في فرض الأجندة الفعلية وجعل الموضوع الإيراني في الصدارة سواء في القاعة أو الأروقة. وأوحت تحذيرات واشنطن للأوروبيين من تسهيل التفاف إيران على العقوبات أن الشهور المقبلة ستكون غنية بالمواقف والتغريدات. نجومية ترمب لا تلغي بريق فلاديمير بوتين وسياسته التي جعلت مداخلات سيرغي لافروف تذكّر العالم بأيام أندريه غروميكو مع الفوارق طبعاً. النجومية نفسها لا تلغي أن أي تصعيد في الحرب التجارية مع ورثة ماو تسي تونغ سيكون أكبر من قدرة العيادة الدولية على توفير العلاجات.