ليس خيار لبنان الوقوع في ورطة لا مخرج منها ليستخدمه لاعبون قساة كورقة في لعبة إقليمية ودولية. لكن هذا، لسوء الحظ وفائض الأنانيات والإرتهانات وقلة التبصر والتدبير، صار قدره في صراع جيوسياسي أكبر منه. والمعادلة قاتلة: لعبة ديموقراطية مغلقة بحسابات سياسية ضيقة، في أزمة وطنية مفتوحة تضع مصير البلد في الدق، فوق الانهيار المالي والاقتصادي. فلا الاستعصاء في تأليف الحكومة، وسط الخلاف على مطالب لا تقدم ولا تؤخّر، سوى مظهر بائس على سطح الأزمة العميقة. ولا السجالات الدائرة سوى مباريات في استغباء الناس التي دفعت ثمن اتفاق المتساجلين وتدفع ثمن خلافهم.
ولا مهرب، في مواجهة القتال الضاري على الحصص ودهاء الذين يوظفون هذا القتال في خدمة حساباتهم البعيدة، من السؤال التقليدي: ما العمل؟ ولا نقص في الأجوبة. لكن البارز في التحرك الاستراتيجي دعوتان: واحدة الى مؤتمر تأسيسي، وأخرى الى مؤتمر دولي. الأولى دعا اليها قبل سنوات السيد حسن نصر الله ثم جرى سحبها من التداول قبل أن يعاود حلفاء “حزب الله” طرحها. والثانية دعا اليها مؤخراً البطريرك الماروني بشارة الراعي. والقاسم المشترك بينهما هو البحث عن مخرج من مأزق في النظام، لكن المخارج المقترحة متناقضة.
ذلك أن نقطة الإنطلاق الى مؤتمر تأسيسي هي تجاوز اتفاق الطائف الى صيغة أخرى. ونقطة الانطلاق الى مؤتمر دولي هي “تحصين الطائف”. الأساس في المؤتمر التأسيسي أن موازين القوى التي قادت الى الطائف تغيّرت في الداخل والخارج، بحيث صار الطائف ضيقاً على التعاظم في وزن المكون الشيعي وحجمه. والمخرج المرحلي هو “المثالثة” بدل “المناصفة”. والأساس في المؤتمر الدولي “إعادة إحياء لبنان عبر تحصين الطائف وتطبيقه نصاً وروحاً وتصحيح الثغرات الظاهرة في الدستور” بما يؤدي الى “تمكين الدولة من استعادة حياتها وحيويتها وحيادها الإيجابي، بحيث تكون دولة موحدة قوية تبني سلمها على أساس مصلحتها الوطنية، لا مصالح دول أخرى”.
والواقع أن الطائف كان مؤتمراً محلياً وعربياً ودولياً. وهو رسم مسار الخروج منه الى دولة المواطنة المدنية عبر تجاوز الطائفية وإلغاء الطائفية السياسية. لكن ما حدث هو سوء التطبيق بالقصد والرفض المنهجي لتطبيق بنود أساسية. وهو عملياً الخروج من الباب الخلفي بالانتقال من الطائفية الى المذهبية. وإذا كان المأمول في المؤتمر الدولي تكريس “الحياد الايجابي”، فإن المطلوب في المؤتمر التأسيسي انتقال لبنان بالتدرج الى المحور الإيراني.
يقول المثل الصيني: “عندما تشرب من بئر تذكر من حفرها”. وما يراد لنا فعله هو ردم البئر وإنكار من حفرها والبقاء في حرب دائمة.