الإنطباع الذي خرج به الموفدون الدوليون بعد لقاءاتهم مع القيادات اللبنانية لا يوحي بأن ثمة حلا قريبا للمأزق السياسي، وما يترتب عليه من تأخير ولادة الحكومة الجديدة.
لقد سمع المسؤولون اللبنانيون نصائح وتحذيرات واضحة بضرورة تذليل العقبات التي تعطل تشكيل الحكومة الجديدة، نظراً لخطورة الأوضاع المالية والإقتصادية التي يتخبط فيها لبنان، ولأن الدول المانحة للقروض والمساعدات لن تقُدم على مد يد العون والدعم النقدي أو الإنمائي، قبل اعلان الحكومة العتيدة، والتي يجب أن تأخذ مطالب الإنتفاضة بعين الإعتبار، وتكون قادرة على إرضاء الحراك ليخرج من الشارع.
ولكن يبدو أن مفعول هذه النصائح والتحذيرات، وما إنطوت عليه من توضيحات صريحة لطبيعة المرحلة والمعطيات التي يجب أن تتكيف معها الحكومة الثالثة للعهد بقيت دون مستوى التنفيذ، لأن الأطراف السياسية ما زالت عاجزة عن التوصل إلى الحد الأدنى من التوافق فيما بينها، كما أن بعضها ما زال يمارس سياسة الإنكار والإستكبار، ويصر على تجاهل الواقع السياسي والوطني المستجد الذي ولدته الإنتفاضة الوطنية الشاملة، والمستمرة منذ ٤٦ يوماً، رغم كل وسائل الضغط المعنوي والعنفي والأمني التي تمُارس ضد الجماهير الغفيرة المشاركة في هذه الثورة العارمة.
ويتبين من النقاشات الدائرة في الغرف المغلقة لأهل القرار، أن المسألة لا تتعلق باسم رئيس الحكومة، أو حتى بشخصيته وحجمه السياسي، ولا بشرط أن يكون من التكنوقراط، بقدر ما المشكلة تدور حول عقلية المحاصصة التي تُدير اللعبة السياسية، ويسعى أصحابها إلى الحفاظ على مغانم السلطة، ومواقع النفوذ في الدولة، من خلال رفض مبدأ حكومة إختصاصيين بحتة دون أي مشاركة سياسية فيها، والعمل على تشكيل حكومة تكنو- سياسية، تحتل مشاركة الأطراف السياسية فيها مساحة مؤثرة في القرارات التي ستتخذها، وخاصة بالنسبة لمشاريع مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وإسترداد الأموال المنهوبة، وصولاً إلى إعداد قانون إنتخابي جديد، سعياً لإنتخابات نيابية مبكرة، تلبي مطالب الحراك.
ويتفرع عن هذه الخطوط العريضة التي تتحكم بتعطيل الولادة الحكومية، مجموعة مواقف وهواجس، تبدأ بمضمون البيان الوزاري، ومصير المعادلة الثلاثية «الشعب، الجيش، المقاومة»، ولا تنتهي عند بعض الإجراءات التي يحاول التيار الوطني الحر إتخاذها ضد من يعتبرهم «مقصرين» حتى لا نقول متواطئين مع موجة الحراك، وساعدوا بشكل أو بآخر في تشجيع إنتشار الإنتفاضة وإستمرارها، سواء من خلال تدابير أمنية «رخوة»، أو عبر الضغوط المالية والنقدية، والتي بلغت ذروتها بإقفال المصارف لأكثر من أسبوع، و«افتعال» أزمة الدولار، التي سرعان ما ولّدت مجموعة أزمات معيشية وخدماتية، كان آخرها أزمة البنزين والمازوت نهاية الأسبوع المنصرم.
لم يعد سراً أن معايير الدول المانحة تقتضي إختيار وزراء الحكومة الجديدة من أهل الكفاءة والإختصاص، وأصحاب السمعة الحسنة، وبعيدين عن شبهات الفساد والإستزلام، ويوحون بالثقة للبنانيين، وللأصدقاء والأشقاء المستعدين للمساعدة والدعم، حتى يتمكنوا من إتمام عملية الإنعاش الإقتصادي التي يعتبر لبنان بحاجة ماسة لها، لأنه حالياً يعُتبر في غرفة العناية الفائقة، ولا قدرة له على الإنتظار طويلاً لوصول الأوكسجين المالي والنقدي، لوقف هذا التدهور المستمر حالياً، والتمهيد لإعادة بعض العافية إلى شرايين القطاعات المنتجة في البلد.
«حوار الطرشان» الذي جرى مع الموفدين الدوليين، وجد من يجد له تبريراً، من خلال ربط ما يجري في لبنان منذ ١٧ تشرين الأول، بالأحداث الملتهبة في العراق، وما واكبها من تظاهرات وصدامات في الشارع الإيراني إحتجاجاً على رفع سعر البنزين، معتبراً أن هذه السلسلة من الأحداث، المحُركة «بإيعازات أميركية»، تهدف إلى تطويق النفوذ الإيراني في لبنان والعراق، وإضعاف سطوة الحرس الثوري على السلطة في طهران.
وجاءت إستقالة حكومة عادل عبدالمهدي في بغداد، بعد أسابيع من إستقالة حكومة الحريري في بيروت، لتوجه ضربة موجعة للإستراتيجية الإيرانية في المنطقة، الأمر الذي من شأنه أن يؤجج الإشتباك المتصاعد بين واشنطن وطهران، والذي يتركز على العقوبات الإقتصادية، بعدما تخلت العاصمة الأميركية عن الميادين العسكرية، لتحقيق سياساتها في المنطقة.
في أواسط الخمسينيات أطلق رئيس الجمهورية يومذاك كميل شمعون شعاراً ذهب مثلاً، خاصة بعد أحداث عام ١٩٥٨ في لبنان، وحصول الإنقلاب على الملكية في العراق، حيث قال: راقب ما يجري في العراق، حتى تعرف ما يجري في لبنان!
والجمع بين التعقيدات الداخلية والصعوبات الإقليمية يقود إلى نتيجة واحدة: لا حل قريباً للأزمة في الأفق اللبناني!?
وكان الله في عون اللبنانيين على مواجهة الترديات المعيشية الصعبة في الأيام المقبلة.