Site icon IMLebanon

اقتصاد دولي متغيِّر

 

في ظل الحربين الأساسيتين القائمتين وعدد آخر من المواجهات الاقليمية المحدودة، تغيب عن نظر الانسان عوامل كانت لتشغله في ظروف طبيعية.  في ظل الحروب، تبقى الدروس الناجحة مهمة خاصة لتحضير سياسات ما بعد العنف.  الصين مثلا ما زالت قوية لكن المواجهات التي تتعرض لها ليست سهلة، اذ أن القوة تنافس دائما القوة والا لما كانت هنالك مواجهة أصلا.  نجاح الصين، وان تعثر بسبب الاقفال الكوروني السابق والمشكلة السكانية المستجدة، يبقى مضرب مثل في النجاح والتفوق.  برامج الاصلاح والتطور التي قامت بها حكوماتها المتعاقبة على مدى 4 عقود أعطت نجاحات كبرى يحاول العديد من دول العالم نسخها.  لكن ما حققته الصين ليس بالسهل نسخه لأنه مرتبط بعوامل عدة انسانية ثقافية سياسية اجتماعية واقتصادية.  الصين فريدة والاطلاع على تجربتها ضروري حتى لو لم يكن النسخ ممكنا.

ماذا أنتجت التجربة الصينية المدهشة؟  ارتفاع كبير في نسب الادخار نتج ليس فقط عن الاستهلاك المتواضع وانما أيضا عن سياسة الطفل الواحد التي خففت الانفاق الأسري.  هنالك جانب آخر هو قطاع العقارات الذي ازدهر سابقا وأصبح يشكل ربع الناتج المحلي، لكنه يتعثر من ناحية الطلب المرتبط خاصة بالتغيير السكاني.  أما الحساب الجاري ففائضه تاريخيا مرتفع، مما سمح للصين باقراض العديد من الدول بينها الولايات المتحدة.  مشكلة سلبية أساسية نتجت عن الازدهار الصيني هي اتساع فجوة الدخل وتشكيل طبقة أغنياء واسعة وقادرة أصبحت تمول الحركة السياحية العالمية وقطاع السلع الفاخرة.

 

من السياسات الناجحة التي اتبعت هي تشجيع نقل العمالة الفائضة من الأرياف الصينية الى المدن لانتاج السلع الخفيفة أو ذات التكنولوجيا المحدودة.  لم يعد هذا ممكنا لغياب هذا الفائض وبسبب الانحدار السكاني.  نجاح خصخصة بعض الشركات الحكومية سمح برفع انتاجيتها وتخفيف هدرها، وبالتالي المساهمة أكثر في بناء الاقتصاد.  أهم ميزات الوجود الصيني في الاقتصاد الدولي هي التجارة المتنوعة حيث هنالك تفوق واضح للصين في الحجم والنوعية قبل وبعد دخولها الى منظمة التجارة العالمية.

حربا أوكرانيا وغزة أضافتا الى مشاكل الاقتصاد الدولي الأساسية.  دعمت الولايات المتحدة أوكرانيا أولا ب 80 مليار دولار أو 1% من الناتج مما يعني ان لا مشكلة تمويل.  هنالك صراع سياسي حالي بين الادارة الأميركية والكونغرس حول تأمين دفعة ثانية من المساعدات المالية.  هنالك نقص في السلع التي تحتاج اليها أوكرانيا خاصة الأسلحة والذخيرة والمعدات والآليات والألبسة المناسبة وغيرها.  الطلب موجود لكن الصناعات تعجز عن تلبية الحاجات مما يشير الى وجود عوائق ادارية ومادية أساسية.

 

شعر العالم والاقتصاد الأميركي تحديدا أن تحويل القدرات الانتاجية العامة من سلع الى أخرى صعب جدا ويتطلب الكثير من الوقت.  تكمن المشكلة أيضا في سلاسل الامداد وتأخير وصول السلع عبر البحار، وبالتالي تعرقلت التجارة الدولية في المرافئ.  هنالك أيضا مشكلة عمالة متخصصة غيرت أماكن وطبيعة عملها في زمن الكورونا.  كانت النتيجة ارتفاع تكلفة الشحن وتأخر وصول البضائع وعدم انتاج سلع الكترونية متخصصة عرقلت انتاج بعض السلع كالسيارات والآليات والمحركات.

الموضوع نفسه موجود من ناحية الاستهلاك حيث أن انتهاء الكورونا دفع المواطنين الى زيادة الاستهلاك.  لكن السلة الاستهلاكية تغيرت نحو السلع التي تصلح أكثر داخل المنزل وليس خارجه.  مثلا بدل ممارسة الرياضة خارج المنزل أو في النادي، اشترى المواطن الآلة التي تصلح للممارسة الرياضية داخله.  بدل الخروج الى المطاعم، جهز المواطن المطبخ بالأفران الالكترونية ذات الفعالية العالية. من الصعب واقعيا على المواطن أن ينسى تجربة الكورونا القاسية.

 

ما علاقة الصين بكل ذلك؟  الحقيقة أن العالم اتكل على الصين في الانتاج لسنوات سابقة.  لكن المصالح السياسية مع الحرب الأوكرانية أصبحت أهم من الاقتصادية، وبالتالي هنالك رجوع الى الوراء فيما يخص وضع الصين بالنسبة للغرب. العلاقات التجارية الأميركية الصينية متوترة وتعالج الصين ذلك عبر الاستثمار في المكسيك المجاورة مستفيدة من عاملين مهمين.  أولا الاتفاق الأميركي الشمالي للتجارة الحرة الذي يسهل انتقال البضائع «المكسيكية الصنع»، حتى لو كانت صينية التمويل والتكنولوجيا، الى أميركا. ثانيا تكلفة النقل بين المكسيك وأميركا أقل بكثير من التكلفة بين الصين والشواطئ الأميركية.

يتألق الدور الصيني في قطاع السيارات حيث تسيطر الصين على انتاج السيارات الكهربائية.  حتى سنة 2022، كانت ألمانيا تصدر السيارات أكثر من استيرادها لها.  أما اليوم تستورد ألمانيا السيارات من الصين أكثر من تصديرها لها.  للصين أفضليتين أساسيتين بالنسبة لألمانيا، أولا حجم الاقتصاد أكبر وثانيا بسبب التغيير التكنولوجي لم تعد الخبرة التاريخية الألمانية في صناعة السيارات بنفس الأهمية.  حتى الولايات المتحدة قلقة من القوة الصينية في انتاج السيارات الكهربائية، وها هي تعطي شركة «فورد» مساعدات مالية كي تطور هذه الصناعة الأساسية.  هنالك تعاون جديد بين «فورد» و«تيسلا» وغيرها، ولا شك أن السباق أصبح عالميا في قطاع السيارات الكهربائية أي سيارات المستقبل.

عالميا يبقى التضخم المشكلة الكبرى المشتركة.لا حل من دون عودة الاقتصاد الدولي الى العمل والمنافسة كما كان في 2018. تؤكد «غيتا غوبيناث» النائبة الأولى لمديرة صندوق النقد الدولي أن محاربة التضخم تبقى صعبة وضرورية. تنصح المصارف المركزية بالابقاء على سياساتها المحاربة للتضخم أي عمليا ابقاء الفوائد مرتفعة. من الطبيعي أن يكون هنالك خلاف في الرأي بين الذين يضعون محاربة التضخم في الأولوية والذين يفضلون تأمين الاستقرار المالي حتى مع بعض التضخم. تشير «غوبيناث» الى أن محاربة التضخم بعد الكورونا أصبحت أصعب لأن عوامل العرض لم تعد بعد الى مرونتها الطبيعية التاريخية.  هذا يفرض على المصارف المركزية تعديل بعض أدواتها بحيث يكون التأثير على التضخم مباشر وأفعل.