لا يريد ساسة هذا الزمن الرديء أن يعترفوا بأن لا الطائفية والمذهبية، ولا العصبية والشعبوية، تبني بلداً، بقدر ما تؤدي إلى هدم ما تبقى من مقومات دولة متهالكة، وهي مهددة بالسقوط الكلّي، تحت ضغط الأزمات المتناسلة بسرعة خارقة.
التدهور المستمر في معيشة اللبنانيين وما يعانونه من صعوبات في تحصيل لقمة العيش، والحصول على دواء، وتأمين الإستشفاء، وتوفير الأقساط المدرسية، وتراجع قيمة الليرة وقدرتها الشرائية، لم يُقنع السياسيين بالتخلي عن أساليب النكد والحرتقات والنكايات، والعمل لما فيه تخفيف آلام هذا الشعب المنكوب، وإتخاذ الخطوات الضرورية لإخراج البلاد والعباد من هذا النفق الأسود، وإستعادة ما أمكن من توازنات إقتصادية ومالية تُعيد بعض الثقة المفقودة بالمنظومة السياسية الفاشلة.
ما حصل على مسرح القضاء الأسبوع الماضي محزن ومعيب ومدان بأشد عبارات الإدانة، لأنه قضى على أهم مقومات الدولة، وضرب سمعة العدالة، وأسقط أهم خطوط الدفاع عن «وطن الرسالة»، بعدما حاولت الضغوط الداخلية والتدخلات الخارجية في إظهار القضاء اللبناني مفكك الأوصال، منقسمآً على نفسه، ومشرذماً بين قضاته.
مع كل الإصرار على إستكمال التحقيقات في الإنفجار الزلزالي لمرفأ بيروت، وكشف حقيقة ما جرى وتحديد المسؤوليات، لا بد من القول بأن عودة القاضي طارق البيطار المفاجئة إلى إستئناف مهمته، بمعزل عن قرارات كف اليد على خلفية الدعاوى القضائية المقدمة ضده، قد طرحت أكثر من علامة إستفهام، من حيث التوقيت والمضمون.
في التوقيت، لوحظ أن المحقق العدلي إستأنف بسرعة مهامه غداة اللقاء الذي عُقد في منزله مع الوفد القضائي الفرنسي الذي ضم القاضيين نيقولا اوبرتين وماري كرستين، وذلك خروجاً عن المسالك القانونية التي تم الإتفاق عليها بين المدعي العام التمييزي غسان عويدات والوفود القضائية الأوروبية، والتي قضت بأن تتم المقابلات مع القضاة اللبنانيين في قصر العدل، وبالتنسيق مع النيابة العامة التمييزية.
في المضمون، أثارت مجموعة قرارات الإدعاء، ومذكرات الإتهامات والإستحضار والتحقيق ضد عدد كبير من المسؤولين الحكوميين السابقين، في مقدمتهم الرئيس حسان دياب وغيره من وزراء ونواب حاليين وسابقين، ورؤساء بعض الأجهزة الأمنية مثل مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، ومدير عام جهاز أمن الدولة اللواء أنطوان صليبا، إستغراب الأوساط القضائية المعنية، نظراً لعدم واقعية تلك القرارات، وإدراك البيطار نفسه، صعوبة أن تتخذ طريقها إلى التنفيذ، قياساً على تجارب سابقة.
وذهب البيطار أبعد من ذلك بكثير عندما أقدم على إقامة دعوى على رئيسه، المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، إستناداً إلى فتوى ضعيفة للقاضي السابق فيليب خيرالله، تشوبها بعض الدوافع الشخصية.
هذه العودة الصاخبة للبيطار وقراراته المبالغ فيها هزت أعمدة القضاء، ودفعت المدعي العام عويدات إلى الرد بقرارات مماثلة حيث سارع إلى الإدعاء على البيطار وإستدعائه للمثول أمام النيابة العامة، إلى جانب الإفراج الفوري عن جميع الموقوفين على ذمة التحقيق في إنفجار المرفأ، والذين لم يُنهِ البيطار التحقيق معهم، رغم مضي سنتين ونصف على توقيفهم .
الصدمة القضائية خلّعت أبواب قصر العدل، وأفسحت المجال واسعاً للتدخلات السياسية إستغلالاً لهذه الأزمة، حيث سارع «نواب التغيير» إلى الولوج إلى داخل قصر العدل، والإشتباك مع وزير العدل ومرافقيه، وتحويل المسألة من أزمة قضائية، إلى مشكلة شخصية بحجة تعرض أحد النواب للإعتداء من قبل مرافقي الوزير الأمنيين.
ودون أدنى مراعاة لمبدأ الفصل بين السلطات، أباحت مجموعة من النواب المعارضين لنفسها حق التدخل في القضاء، وتأييد القاضي البيطار في الإدعاء على المدعي العام التمييزي، وإنتقاد تصرف وقرارات الأخير لأنه أقام دعوى ضد البيطار!
لا ندري إذا كان مجلس القضاء الأعلى قادراً على لملمة الأزمة ومعالجة هذه الجراح العميقة في الجسد القضائي، أم أن الخلافات الطائفية والمذهبية هي أكثر تعقيداً من نسيج الجسم القضائي.
ولكن ثمة تساؤل عما إذا كان هذا السيناريو الأسود الهدف منه إطلاق سراح بعض الموقوفين، وفي مقدمتهم محمد زين العوف الذي يحمل الجنسية الأميركية، وتمكن من السفر قبل تبلّغ الأمن العام قرار منعه من السفر، والثاني بدر ضاهر الذي خاض التيار العوني المعارك طوال سنتين مطالباً بإطلاق سراحه.
أم أن وراء الأكمة ما وراءها، بحيث يبرر فشل القضاء اللبناني في إنهاء تحقيقاته في إنفجار العصر، الدعوة لتولي لجنة دولية لتقصي الحقائق لكشف ملابسات أكبر ثالث إنفجار في العالم، وإحالة ملف المرفأ بكل تشعباته إلى التحقيق الدولي.
الأيام القليلة المقبلة كفيلة بكشف خلفيات الزلزال القضائي وإرتداداته على سمعة العدالة، وعلي الوضع الداخلي برمته.