أعلنت محكمة العدل الدولية في لاهاي يوم الجمعة المنصرم قرارها بشأن “التدابير المؤقتة” التي طلبتها جنوب إفريقيا في قضيتها ضد “إسرائيل”، المتعلقة بتطبيق “إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها” في قطاع غزة. ونصّ على الطلب من “إسرائيل” القيام بما في وسعها لمنع جميع الأعمال التي تتضمنها المادة الثانية من الإتفاقية فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزّة، وتشمل تلك المتعلقة بقتل أعضاء من جماعة أو إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بهم، أو إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يُراد بها تدميرها كليا أو جزئياً وما الى ذلك، غير أنّها لم تأمرها بوقف إطلاق النار فوراً في القطاع.
ولهذا ربّما وصف البعض قرار المحكمة الأولي بأنه كان باهتاً، في حين اعتبره البعض الآخر إنتصاراً لغزّة وهزيمة للعدو الاسرائيلي، الذي يجري محاكمته بتهمة الإبادة الجماعية للمرة الأولى في التاريخ. ويقول السفير الدكتور بسام النعماني، الخبير في القضايا الدولية، بأنّ هذا القرار هو في الواقع “حمّال أوجه” ولن يشفي الغليل، مثلما حصل تماماً مع المحكمة الخاصة بلبنان حول إغتيال الرئيس رفيق الحريري. فالكثيرون من الذين يتغنون بوجود محكمة العدل الدولية، كأعلى سلطة قضائية ضمن منظومة الأمم المتحدة، يتناسون أو يريدوننا أن نتناسى، بأن الأمم المتحدة ليست “الحكومة العالمية”. وبالتالي، فإن قرارتها ليست ملزمة على صعيد الدول الكبرى، لا سيما بوجود حق النقض “الفيتو” التي تتمتع بها الدول المذكورة في مجلس الأمن. فالمجلس في تكوينه مؤلّف من مجموعة مصغرة من الدول “المتوسطة والصغرى” يتم تداولها وإنتخابها كل سنتين، ولكنها في النتيجة مهيمن عليها من الأعضاء الخمسة الدائمين. ولهذا يمكن إعتبار مجلس الأمن أعلى سلطة تنفيذية على الصعيد الدولي، ولكنها حتماً ليست “الحكومة العالمية”.
وعليه، فإن محكمة العدل الدولية، على ما أضاف النعماني، هي أيضاً تابعة لهذا النظام الهرمي في توزيع السلطات. فقرارتها لا تعني بأن الدول الكبرى ستقوم تلقائياً بتطبيق “إستنابة قضائية” وتجلب “إسرائيل” إلى قوس العدالة بالقوة القاهرة. ويمكن إخضاع قرار المحكمة الأخير، والذي يعتبر أنه “تمهيدي”، إلى هذا المنطق المتداخل الذي، وللأسف الشديد، لن يرفع الضيم عن أهل غزة، فما يتعرضون له من إبادة جماعية يمكن مشاهدته بالعين المجردة، وهو أمر متواصل رغم قرار المحكمة، ولا حاجة أن ننتظر سنوات متعدّدة لكي تقوم لاهاي بإصدار حكمها النهائي، حول إذا قامت أم لم تقم الحكومة “الإسرائيلية” بتطبيق سياسة إبادة جماعية متعمدة ضد الشعب الفلسطيني في غزة؟
وعلى النقيض من ذلك، فإن الكلمات لا تكفي لكيل المديح للدعوى التي تقدّمت بها جنوب إفريقيا، على ما تابع النعماني، وإنتصارها للحق وللمظلوم رغم أنّ بلاده، كما صرح رئيسها، بلد صغير وضعيف أمام تكالب القوى الكبرى. وكنا نتمنى لو أن الدول العربية والإسلامية فعلت ما قامت به جنوب إفريقيا، وإنضمت على الأقل إلى الدعوى أو ناصرتها. ولكن هيهات!
وأشار الى أنّ الدعوى صيغت بحرفية قانونية عالية، وركزت على الوقف الفوري للعمليات العسكرية “الإسرائيلية”في غزة، وأن تتخذ “إسرائيل” جميع الإجراءات المطلوبة بموجب معاهدة منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948) لوقف إبادة الشعب الفلسطيني، وأن تتوقف القوات المسلحة “الإسرائيلية” والمدنيين “الإسرائيليين” عن إرتكاب مثل هذه الأفعال ومعاقبتها في حال حصولها، وأن تسمح للمحكمة وللجان تقصي الحقائق بالولوج في الوثائق الرسمية “الإسرائيلية” والإثباتات، التي تؤكد حصول جريمة الإبادة وعدم إتلاف مثل هذه الإثباتات، وأن يتم تقديم تقرير خلال أسبوع واحد فقط وبشكل متلاحق عن الإجراءات التي تم إتخاذها في هذا المجال، وأن تتوقف “إسرائيل” عن أي أعمال تؤدي إلى تعميق وتوسيع الصراع (حتى تنظر المحكمة في القضية).
وبرأي السفير النعماني إنّ قرار المحكمة الأولي التمهيدي الذي صدر بتاريخ 26/1/2024، يؤكد على صلاحية محكمة العدل الدولية في النظر في دعوى جنوب إفريقيا في وجه “إسرائيل”، وهذا يعني أنه يمكن أن تصبح مدانة بهذا الإتهام من قبل محكمة العدل في دعوى قد تمتد لسنوات عدة، كما يشير بعض المراقبين القانونيين. كما يمكن ألا يتم إدانتها وتجريمها وبالتالي تبرئتها. كذلك يمكن أن تتوصل المحكمة إلى حل وسط “لولبي”، أي أنها تدين ولكن لا تجرم أو تعاقب. وبينما ينظر القضاة والقانونيون في هذا الأمر، تكون “إسرائيل” قد حققت ما تريده وتخطط له من دون أي رادع حقيقي.
وقد أمرت المحكمة “إسرائيل”، على ما تابع النعماني، بأن تتخذ خطوات لوقف أي أعمال إبادة جماعية، ووقف ومعاقبة أي دعوات مباشرة وعامة تحض على إرتكاب مثل هذه الأعمال، وأن تقوم بإتخاذ كل الخطوات المطلوبة لتوفير المعونات الإنسانية لأهل غزة. كما أن لا تقوم بالتالي بإتلاف أي وثائق أو مستندات قد تحتاجها المحكمة. وتمّت في الوقت نفسه، دعوة حركة حماس لإطلاق سراح جميع المحتجزين لديها. وهذا يعني أنّها حصرت إهتمامها بما جرى في 7 أتشرين الأول وما بعدها، وتجاهلت المعاناة الفلسطينية تحت الإحتلال وآلاف المعتقلين في السجون والمعتقلات.
ولهذا السبب فإنّ القرار هو “حمّال أوجه”، على ما أكّد النعماني، فالمحكمة تطلب من العدو الاسرائيلي التوقف والتعاون معها، ولكن هل تمت أو سيتم إدانتها أم لا؟ أو أنه سيُصار لاحقاً الى انتقاء “أكباش محرقة” من ضباط أو مستوطنين وإتهامهم بالجريمة على المستوى الفردي ثم تبرئة “الحكومة الإسرائيلية” من هذا الفعل؟ ويرى بأنّه جرى تجاهل الدعوة “الإحترازية” التي تقدمت بها جنوب إفريقيا لوقف فوري لإطلاق النار في غزّة، ما يعني أنّ الحرب قائمة والإبادة مستمرة. وما يندى له الجبين هو هذا العناد “الإسرائيلي” في رفض القرار بالكلية والإصرار، على أن “المحرقة” التي تعرضوا لها في الحرب العالمية الثانية ما تزال سارية، وأنّ كلّ أعدائهم المعادين للسامية يرغبون بإبادة اليهود، ولهذا يحق “لإسرائيل”، من وجهة نظرهم، أن تتخذ كل الخطوات التي تراها ضرورية للدفاع عن نفسها. ويهددون القاصي والداني بأنّ عداءهم لهم لن يُمحى ولن ينسى لكلّ الأجيال اللاحقة، مثلما علّق رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو بعد صدور قرار محكمة العدل.
هذا وسينظر مجلس الأمن الدولي في هذا القرار يوم الأربعاء المقبل. ويقول بعض المعلقين بأنّ المجلس لا يمكنه نقض هذا القرار لأنه ملزم على الرغم من أنّه”حمّال أوجه”. فهل ستستجيب الولايات المتحدة لضغوط “إسرائيل” كي يتم إدانة حماس على عملية 7 أكتوبر؟ وما هو مغزى إتصال وزير الخارجية أنتوني بلينكن بنظيرته وزيرة خارجية جنوب أفريقيا عشية صدور قرار محكمة العدل؟ أن الولايات المتحدة ترغب بالتعاون ولكن……؟ فمن أين سيأتيكم العزاء يا أهل غزة؟!