Site icon IMLebanon

محكمة العدل الدولية تنتصر للعدالة في فلسطين

 

لقي القرار البدائي ذو الطَّابع الإجرائي الذي صدر عن محكمة العدل الدَّولية يوم الجمعة الفائت، والموافق فيه السادس والعشرين من الشَّهر الحالي، الكثير من الارتياح لدى غالبيَّة الأوساط الشَّعبيَّة والدَّوليَّة على النِّطاق العالمي، وفي المقابل أثار حفيظة قادة الكيان الإسرائيلي وبعض المسؤولين في الدُّول الدَّاعمة له وفي طليعتهم الولايات المتَّحدة الأميركيَّة وكندا وأستراليا وبعض دول أوروبا الغربيَّة ولو بدرجات مُتفاوتة.

جاء هذا القرار كتدبيرٍ وقائي استجابةً لطلبٍ طارئٍ وعاجلٍ تقدَّمت به دولة جنوب أفريقيا إلى المحكمة التي سبق لها وتقدَّمت أمامها بدعوى ضد دولة إسرائيل لانتهاك الأخيرة للالتزامات التي تعهَّدت بها بانضمامها إلى الاتِّفاقية الدَّوليَّة لعام 1948 الخاصَّة بمنع الإبادة الجماعيَّة. وقد أوجب هذا القرار على إسرائيل ضرورة اتِّخاذ الإجراءات الوقائيَّة الكفيلة بوقف المَزيد من الأعمالِ التي ترتكبُ في قِطاع غزَّة بحق الشَّعب الفلسطيني الأعزل والتي تنضوي ضمن هذا التَّوصيف الجرمي.

 

هذا القرار على الرَّغم من أنه قرار أولي إعدادي إجرائي غير فاصل في أساس النِّزاع، وبالتالي لا يشكِّلُ إدانةً قضائيَّةً رسميَّةً لدولة إسرائيل بارتكابها أعمال إبادة جماعيَّة بحق الشَّعب الفلسطيني، إلَّا أنه ينطوي على أهميَّة كبرى، تتمثَّلُ في جملةٍ من الأمور أهمها: تأكيد المحكمة على صلاحيَّتها في النَّظر بهذه القضيَّة، وأنها قد وضعت يدها على هذه الدَّعوى بصفةٍ موضوعِيَّة، وهذا ما يفهمُ من تعليل ردِّها على الطَّعن الشَّكلي الذي تقدَّم به الطَّرف المدعى عليه «إسرائيل» وأن الطَّرفين المتداعيين أمامها يتمتّعانِ بصفة أمامها بمجرد قبول الدَّعوى، وأن تعاملها معهما أضحى كمدعٍ ومدعىً عليه.

ويُستشف من القرار أيضاً أن المحكمة ماضيةٌ في إجراءات المُحاكمةِ لحين الفصل بالقضيَّة المُثارة أمامها، بموجب حكم بات ونهائي لا يقبل أي طريق من طُرقِ المراجعة، باستثناء طلب إعادة المحاكمة، والمرهون بظهور مُعطيات لا تكون معلومة عند المُحاكمَة ومن شأن الأخذ بها أن يغيِّر من طبيعة الحُكم المُتَّخذ. وأنه قضاتها مدركون لمخاطر موضوع الدَّعوى، ولمغبَّةِ الإستمرار في الممارساتِ الإجراميّة التي تنطوي على إبادة جماعيَّة، وهذا ما يستشف من تضمين قرارها الإيعاز للمدعى عليه باتخاذ تدابير وقائية عاجلة لوقف أعمال الإبادة الجماعيَّة وحماية الأدلَّة. والأهم من كل ذلك أنه فيما لو انطوى الحُكم النهائي المنتظر صدوره مُستقبلاً على إدانة إسرائيل، يصبحُ بإمكان كل مُتضرر ولغير طرف في هذه الدَّعوى مُقاضاة إسرائيل استناداً للحكم ولو أمام مراجع أخرى ومطالبتها بالتَّعويض عما لحقه من ضرر، كما يتيحُ المجال لمُلاحقة كبار المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين في إسرائيل جزائيًّا أمام المُحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة وأمام مَحاكم وطنيَّة تُتيحُ قوانينُها ونظمها الدَّاخليَّة النَّظر بمثل هكذا جرائم وإن وقعت أفعالها الماديَّة خارج إقليمها.

 

في الواقع كدنا وكاد الكثيرون من أحرار العالم نفقدُ الأمل بكل الهيئات الدَّوليَّة، التي من المُفترض أن ترعى العلاقات بين الدُّول والشُّعوب على قَدرٍ من العَدالة والمُساواة وبما يحفظُ إنسانيَّةَ الإنسان، وكدنا نظن أن بعضَها يُسهِم في تقويض كل المَقاصد التي قامت عليها هيئة الأمم المتَّحدة ومواثيقها الإنسانيَّة. نعم لقد تآلفنا مع المراوغات والمواقف المُتخاذلة والقرارات الرماديَّة المُتَّخذة منذ إنشاء هيئة الأمم المتَّحدة، ولطالما عانينا من تخاذل المجالس والمنظمات والهيئات والمكاتب التَّابعةِ لها (وبخاصَّة مجلس الأمن الدَّولي) عن القيام بواجباتها وتشويهها للحَقائق في كثير من المسائل الدَّوليَّة الهامَّة، وتعاميها عن الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان عامَّة، وعدم وقوفها إلى جانب الشُّعوب المُستضعفةِ ومناصرتها في سعيها للتَّحرُّر وتقرير المَصير؛ وكدنا نُسلِّمُ بأن شريعة الغاب هي السَّائدةُ في عالم تدَّعي فيه الدُّول النافذة بهتاناً التَّحضُّرَ والرقي الأخلاقي والإنساني، إذ لطالما كانت الغلبةَ لمن يمتلك النُّفوذ والقوَّة والتَّفوُّق العَسكري، بدلاً من إنصافِ المظلومين والمنتهكة حقوقهم.

 

وبتنا على وشك أن نيأس من التَّعويل على المؤسَّسات الدَّوليَّة لحمايةِ الفلسطينيين مما يتعرَّضون له من مظالمَ منذ عام 1948 م، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، وفي ظِلِّ عجز الدُّول العربيَّة في الدِّفاع عن هذا الشَّعب العربي الأصيل، والصمت المريب الذي يخيِّمُ على الأنظمة القائمة فيها، لولا انبثاق بصيص أملٍ من الدَّعوة المقدَّمة مؤخَّراً من دولة جنوب إفريقيا ضد الكيان الإسرائيلي بجرم الإبادة الجماعيَّة، التي نعوِّلُ عليها في إعادةِ بعض الشّيء من الهيبة والحيادِيَّة للمؤسَّسات الدَّوليَّة.

يأخذ البعض على المحكمة أن قرارها لم يدن إسرائيل بجرم الإبادة الجماعيَّة، واكتفائها بالطلب منها «كدولة معنية بما يحصل على أرضها» اتخاذ الإجراءات الوقائيَّة لمنع أية أعمال تنطوي على إبادة جماعيَّة، ونرى أنه من الطبيعي لمحكمة لم تنظر بأساس النِّزاع بعد أن تكتفي بالإيعاز لها باتخاذ إجراءات وقائيَّة لتلافي وقوع أعمال إبادة جماعيَّة والحفاظ على الأدلَّة، وهذا يحمل إسرائيل مستقبلاً مسؤوليَّة تمنعها عن اتخاذ ما يلزم من إجراءات لمنع هذه الجريمة كما عن تعمدها أو إهمالها في إخفاء الأدلة، وخاصَّة فيما لو خلصت المحكمةُ بنهايةِ المحاكمةِ إلى إدانتها بجريمة الإبادة الجماعيَّة. أما القول بوجوب إلزامها بوقف أعمال القتال، والطلب إلى مجلس الأمن اتخاذ ما يلزم في هذا الإطار، فهو لا يجانب الأصول الإجرائيَّة، إذ يقتضي تثبُّت المحكمة أولاً وإصدارُ قرار قضائي يؤكِّدُ ذلك، الأمر الذي لم يتيسَّر لها التَّحقق منه بعد، وبالتالي لا يمكن لها اتخاذ قرارٍ بوقف الأعمال الحربيَّة، طالما لم تتثبت بعد من عناصر الجريمة.

وأنها وقفت إلى جانبها في المطالبة بتحرير المُحتجزين، وصرفها النَّظر عن المعتقلين الفلسطينيين.

كما يأخذ البعضُ عليها منحها لإسرائيل مهلة شهر لتتقدَّم بالتَّقرير المطلوب للإفصاحِ عن الإجراءات المُتَّخذة، وبناء موقفها على ضوء ذلك، وأنها كانت منحازةً عندما قضت بوجوب إخلاء المحتجزين الإسرائيليين (الأسرى) وبإغفالها المحتجزين الفلسطينيين في السجون الإسرائيليَّة، ونحن نرى أن الإجراءات المطلوبة لا تتم بليلة وضحاها وبالتالي لا بد من تحديد مهلة معقولة، كما أنه بعد انتهاء المهلة يصبح بإمكان الجهة المدعيَة، سواء تقدَّمت إسرائيل بتقرير أم امتنعت عن ذلك وفيما كانت قد اتَّخذت إجراءات فاعلة أم لم تأخذ، المُطالبة باتخاذ قرار يُشير إلى امتناعها عن ذلك أو لعدم كفاية الإجراءات المُتَّخذة، والرجوع إلى مجلس الأمن لاتِّخاذ ما يراه من إجراءاتِ وتدابير عاجلة كفيلةِ بتنفيذ قرارِ المحكمة القاضي بوقف أعمال الإبادة الجماعيَّة؛ أما لجهة الأسرى الإسرائيليين والمعتقلين الفلسطينيين فمن المنطق القانوني أن تشير إلى وجوب إطلاق سراح الإسرائيليين الذين أوقفوا خارج إطار الأعمال القتاليَّة، وعدم تناولها للمعتقلين الفلسطينيين لعدم إثارة الموضوع، ولأن إسرائيل تعتقلهم استناداً لمُحاكمات ولو كانت صوريَّة.

ونرى أن المسؤولين الإسرائيليين قد فوجئوا بهذا القرار البدائي، وربما ندموا أو سيدمون على انضمامهم إلى الاتفاقيَّة كما سيندمون على قبولهم حُضور ومتابعة جلسات المحاكمة، لأنهم أعلوا من مشروعيَّتها ولكونهم بنهاية المطاف سيُدانون بنتيجَتِها بجريمة الإبادة الجماعيَّة، وهذا ما يستوحى من تعليلات المحكمة لبنود قرارها، ومن الغالبيَّة التي حظي بها القرار بمختلف تفرُّعاته (قاربت الإجماع). ونرى أن الكيان الإسرائيلي بعد هذا القرار سيكون أمام خيارين كلاهما مُر: إمَّا الامتناع عن حضور ومتابعة جلسات المحاكمة ووصف المحكمة بالمُنحازة، وهذا يستوجبُ الإستمرار بمحاكمة إسرائيل غيابيًّا ولكن بمثابة الوجاهي، وإما الإستمرار بحضور جلسات المحاكمة لحين صدور الحكم النهائي مع تقديم تقارير ومطالعات مُزيِّفة للحقائق، (وهذا باعتقادي لن ينطلي على هيئة المحكمة وستنكشفُ محاولاتها أمام العالم أجمع كون المُحاكمة تُبَثُّ عبر الفضائيَّات)، على أن تتجاهل مُستقبلاً القرارات التي تُدينُها أو لا تصُبُّ في غير صالِحِها. وفي كلتا الحالتين ستَتشوه سمعتها وستبدو كدولة مُجرمة ومُتنصلة من تَعهُّداتها والتِزاماتها الدَّوليَّة ومُتخلِّفة عن تنفيذِ أحكامِ أعلى هيئة قَضائيَّةٍ دولِيَّة.

وجواباً على التَّساؤل المطروح، ماذا بعد انتهاء مهلة الشَّهر؟ وماذا لم تستجب إسرائيل لقرار المحكمة في اتخاذ إجراءات وقائية كفيلة بمنع أعمال الإبادة الجماعية؟ نرى أنه، سواء استجابت إسرائيل أم لم تستجب، يصبح بإمكان الطرف المدعي تقديم طلب إستصدار قرارٍ مُلزمٍ بهذا الخصوص يُمكن تنفيذه عبر مجلس الأمن؛ ولكن رب سائل يسأل: ماذا لو فشلَ مجلس الأمن في اتِّخاذ قرار يضع قرارات محكمة العدل الدَّولية موضع التَّنفيذ تحت الفصل السَّابع؟ نتيجة استعمال إحدى الدُّول الدائمة العضويَّة فيه لحق النَّقض «الفيتو»؟ هنا يمكن تكرار المُحاولات كما اللجوء إلى الهيئة العامَّة للاستصدار قرار بهذا الخصوص، بغضَّ النَّظر عن كون مفاعيله معنويَّة لا تنفيذيَّة، إذ يشكِّلُ مثل هكذا قرار ضربةً معنويَّةً للكيان الإسرائيلي من أعلى المراجِعِ الدَّوليَّة، وبالتالي له مفاعيل سياسيَّة وعمليَّة غير مباشرة، إذ سيدفع بالعديد من الدُّول لتغيير موقفها منه، كما يدفع بعضها إلى فرملة دعمها له، وربما التَّوقف عن تبرير ما يرتكبه من جرائم بحق الشَّعب الفلسطيني ودعمِ المبادراتِ القائمةِ على تبني حلول سِّلميَّةِ شَاملة وعادلةٍ للقَضيَّة الفلسطينيَّة، ويبقى القرار القضائي القاضي بالإدانةِ بمثابة وصمةِ عارٍ على جبين الكيان الإسرائيلي والدول الدَّاعمةِ له عسكريًّا واستخباراتيًّا ولوجستيًّا وسياسيًّا، كما تلك السَّاعيةِ إلى تبرير أعماله الإجراميَّة الهمجيَّة.

وستٌسهمُ الإدانةُ القضائيَّةُ أيضاً في تعزيز التَّحركات الشَّعبيَّة المناهضة للعنف عامَّة والمناصرة للقضيَّة الفلسطينيَّة على وجه التَّحديد، كما في تفعيل دور المنظَّماتِ المدنيَّة المناصرة لحق الشعوب في تقرير مصيرها في الضَّغطِ على الحُكوماتِ لوقف تعامُلها مع إسرائيل كدولةٍ عنصريَّةٍ مارقة، وتكثيف الضغوط الدَّوليَّة لإرغام الكيان الصهيوني على الامتناع عن ارتكاب المزيد من المجازر، والقبول بوقف دائم لإطلاق النار، والكف عن التَّدمير الممنهج لكل مقومات الحياة واستهداف الأبرياء في غزَّة كما للقبول بعمليَّة تبادل شاملة لأسراه بالمعتقلين الفلسطينيين.

وأخيراً لا بدَّ من التَّعبير عن أسمى آيات الشُّكر لدولة جنوب إفريقيا، ولقُضاة مَحكمة العدل الدَّوليَّةِ لما أبدوه من مناقبيَّة، إذ لم يتنحوا ولم يستنكفوا عن واجباتهم، ولم يماطلوا ولم يبدوا خوفاً ولم يصل بهم الأمر إلى حدِّ مُساعدةِ المُرتكبين المُتهمين على التَّهرُّب من المُلاحقةِ والإفلات من العِقاب؛ وأختم على أمل أن تنتقل عدوى هذه المناقبيَّات المُتجرِّدة إلى جميع القُضاةِ في لبنان.

* عميد مُتقاعد