IMLebanon

محكمة العدل الدولية: قراءة في القرار

كتب وليد عبد الحي:

لعل القراءة المتأنّية لقرارات محكمة العدل الدولية بخصوص الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل وتتهمها بارتكاب أعمال غير إنسانية تقع في خانة «الإبادة الجماعية» تستوجب التوقف عند الملاحظات التالية:

أولا: قبول الدعوى يعني الاقرار الضمني بأن إسرائيل قامت بأعمال تعطي المحكمة الحق في الاستجابة للنظر في الدعوى الجنوب افريقية، ويكفي أن نتمعّن في النص التالي من ديباجة القرارات، يقول النص  حرفيا: «فيما يتعلق بما إذا كانت الأفعال وجوانب القصور التي اشتكى منها المدعي تبدو وكأنها يمكن أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية، تشير المحكمة إلى أن جنوب أفريقيا تعتبر إسرائيل مسؤولة عن ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة وعن الفشل في منع الإبادة الجماعية والمعاقبة على الأفعال التي تندرج ضمنها، وتزعم جنوب أفريقيا أن إسرائيل انتهكت أيضا التزامات أخرى بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك تلك المتعلقة بـ «التآمر لارتكاب الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، ومحاولة الإبادة الجماعية، والتواطؤ في الإبادة الجماعية». ومن وجهة نظر المحكمة، يبدو أن بعض الأفعال وحالات التقصير التي زعمت جنوب أفريقيا أن إسرائيل ارتكبتها في غزة يمكن أن تندرج ضمن أحكام الاتفاقية».

 

ما سبق من نص قرار المحكمة  يشير الى ان واقعة ارتكاب أفعال الإبادة لها أسس كافية أخذت بها المحكمة، وهو امر سيبقى من وجهة نظر المحكمة مرافقا لإسرائيل، لأن المحكمة تخلُص طبقا لمنطوق ديباجة قرارها» الى أن جنوب أفريقيا لديها الحق في أن تعرض عليها النزاع مع إسرائيل بشأن الانتهاكات المزعومة للالتزامات بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية. ومن وجهة نظر المحكمة، فإن الحقائق والظروف المذكورة أعلاه كافية لاستنتاج أن بعض الحقوق التي تطالب بها جنوب أفريقيا على الأقل والتي تسعى إلى حمايتها هي حقوق معقولة لان هذا هو الحال فيما يتعلق بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية والأفعال المحظورة ذات الصلة المحددة في المادة الثالثة، وحق جنوب أفريقيا في السعي إلى امتثال إسرائيل للالتزام بنصوص الاتفاقية».

 

بناء على هذه المقدمة، تطالب المحكمة إسرائيل بما يلي (النص الحرفي):

1- ستقوم دولة إسرائيل – وفقا لالتزاماتها بموجب الاتفاقية  بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة -، باتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأعمال المتضمنة في  نطاق المادة الثانية من هذه الاتفاقية، وعلى وجه الخصوص:

(أ) القتل لأفراد المجتمع.

(ب) التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير.

(ج) فرض ظروف معيشية متعمدة على السكان في غزة من أجل تنفيذ أعمال التدمير المادي كليا أو جزئيا.

(د) فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات.

وعلى دولة إسرائيل أن تضمن وبشكل فوري عدم قيام جيشها بارتكاب أي أفعال موصوفة في النقطة 1 أعلاه.

ما سبق يستوجب سؤالا محددا، كيف ستمارس إسرائيل عملياتها العسكرية في ظل «القيود المنصوص عليها في القرار رقم «1»، وصحيح ان القرار تجنّب النص الواضح على «وقف إطلاق النار»، لكن تنفيذ ما سبق يجعل العمليات العسكرية أكثر تعقيدا، وقد يقول البعض ان إسرائيل لا تولي اهتماما لذلك، وهنا نسأل: هل كانت ستلتزم لو نص القرار على وقف إطلاق النار؟ أنا أرى ان النص هو اقرب لضبط العمليات العسكرية، فإذا التزمت بها إسرائيل (وهو أمر موضع شك كبير) فان ذلك سيضعف آلية الضغط على المجتمع الغزي وبالتالي يخفف بعض العبء عن المقاومة، وإذا لم تلتزم إسرائيل فان موقفها القانوني سيصبح أكثر تعقيدا أمام المجتمع الدولي.

 

2- تدعو المحكمة في قراراتها إلى أن «تلتزم إسرائيل باتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتعلق بأعضاء المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة». ولعل تصريحات بعض الوزراء الإسرائيليين في اللحظات الأولى لإعلان قرارات المحكمة تندرج تحت هذا البند، وهو بداية الانتهاك للقرارات.

3- تطالب المحكمة إسرائيل بضرورة اتخاذ «إجراءات فورية وفعّالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية اللازمة بشكل عاجل لمعالجة  الظروف المعيشية غير المواتية التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة؛»، وأرى ان هذا النص ملزم لإسرائيل، ولكنه يفتح الباب أمام مصر – إذا أرادت – أن تفتح معبر رفح على مصراعيه استنادا الى ان ذلك تطبيق لقرارات المحكمة الدولية سواء وافقت إسرائيل أو لم توافق، فقرار المحكمة يمثل سندا قانونيا لمصر.

4- تدعو المحكمة إسرائيل الى اتخاذ «إجراءات فعّالة لمنع تدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالادّعاءات المتعلقة بالأفعال التي تدخل في نطاقها المادة الثانية والمادة الثالثة من اتفاقية منع الجريمة والمعاقبة عليها»، أي ان على إسرائيل أن لا تقوم باخفاء ما قامت به من أعمال تقع ضمن جريمة الابادة الجماعية للتملص من عواقب ذلك، وهو يعني ضمنيا اقرار من المحكمة بأن ثمة شواهد مادية على فعل الإبادة، وعليه فالمحكمة تريد الحفاظ على هذه الشواهد.

5- طالبت المحكمة من إسرائيل تقديم «تقرير إلى المحكمة بشأن جميع التدابير المتخذة على أن يتضمن دلائل على ان إسرائيل نفذت التزاماتها بهذا الخصوص، وحددت المحكمة مدة تنفيذ ذلك خلال شهر واحد من تاريخ إصدار المحكمة قرارها (أي يوم 26 من شهر فبراير القادم). وهو ما يعني ان استمرار القتال بالكيفية التي مارستها إسرائيل في الشهور السابقة سيضيف الى قائمة الاتهامات لها، مما سيجعل موقفها القانوني أكثر تعقيدا.

6- أبدت المحكمة «قلقا بالغا إزاء مصير الرهائن الذين تم اختطافهم خلال الهجوم على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واحتجزتهم منذ ذلك الحين منظمة حماس وغيرها من الجماعات المسلحة، ويدعو إلى إطلاق سراحهم فوراً ودون قيد أو شرط.»، ومن الواضح ان هذا الطلب يمثل «هدية لنتنياهو»، ويمكنه أن يتذرع بأن عدم الاستجابة له من قبل المقاومة يبرر له اتخاذ اجراءات يتم تفسيرها بأنها «لتنفيذ قرار المحكمة» في هذا الخصوص.

الخلاصة:

لا أرى ان قرارات المحكمة سيئة بالقدر الذي بدا للوهلة الأولى، لكنها دون شك أدنى من «الطموح» الذي رافق اجراءات المحكمة قبل الوصول للقرارات، ولا ريب عندي ان مناقشات الغرف المغلقة كان لها دورها في ذلك، وعليه فان التقرير الذي يجب على إسرائيل أن تقدمه خلال شهر قد يدفع حكومة نتنياهو الى خطوتين (إذا قامت بتقديم التقرير المطلوب من المحكمة):

أ‌- محاولة الظهور بمظهر أقل خشونة في عملياتها العسكرية بهدف غواية المحكمة نحو عدم اتخاذ قرارات تتضمن مخالفات جديدة لإسرائيل.

ب‌- ستعمل إسرائيل على استغلال قرار المحكمة بالافراج عن الرهائن، وهو ما يستوجب على المقاومة وجنوب افريقيا (ومن انضم إليهما) اثارة موضوع الرهائن الذين اعتقلتهم إسرائيل في غزة خلال الحرب على أقل تقدير (ناهيك عن من كان معتقلا قبل الحرب).

وقد يزداد المشهد تعقيدا، الى الحد الذي يدفع الى التوجه نحو مجلس الأمن، وهناك سيبدأ مشهد آخر قد يدفع نحو مزيد من تصاعد احتمالات اتساع ميدان المعركة إقليميا… ربما.