IMLebanon

الوساطات الدولية: مفاوضات أم «تبادل خدمات»؟!

 

 

يبدو واضحاً انّ كل المسارب المؤدية إلى مخرج داخلي لأزمتي العلاقات مع السعودية واحياء جلسات الحكومة قد سدّت ولم يبق سوى واحد منها يرمي منه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي استقالته في وجه الجميع. ولذلك بقي الرهان على الوساطات الخارجية وسط عقبات تحول دون اي انجاز في وقت قياسي، وهو ما يعزز المخاوف المشروعة من تحولها عملية «تبادل خدمات» بين الجبابرة تتجاوز مصالح اللبنانيين. وعليه، ما الذي يقود الى ذلك؟

 

ما ان انتهت جولة ميقاتي أمس الأول، فور عودته من لندن، على قصر بعبدا وعين التينة حتى ثبت عقم البحث عن مدخل لحل داخلي للازمة. فردات الفعل السلبية السريعة التي لقيها النداء الذي اطلقه مناشدا وزير الاعلام جورج قرداحي «الى تحكيم ضميره وتقدير الظروف واتخاذ الموقف الذي ينبغي اتخاذه»، فرملت أي آمال بإمكان توفير مثل هذا المخرج. والزيارة التي سبقت النداء الى قصر بعبدا ولقائه مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وتلك التي قام بها الى عين التينة للقاء رئيس المجلس النيابي نبيه بري لم تأت بما اراده، وهو ما شكل تتمة للفرز القائم في المواقف بين الأطراف وهو ما أثبتته المواقف والتهديدات التي سبقت لقاءات يومه الاول في بيروت ورافقتها وتلتها.

 

وما هو معلن حتى كتابة هذه السطور، ان التفاهم على خريطة الطريق للحل التي توصل اليها ميقاتي وعون في لقاء بعبدا – كما تسربت تفاصيلها من اوساط الطرفين – لم تلق التجاوب المطلوب عند بري. فقد قضت هذه الخريطة أولاً بتوجيه «النداء الاخير» الى قرداحي للاستقالة بالطريقة التي تم القيام بها قبل ولوج المرحلة الثانية منها والهادفة الى اقالته وفق الآليات الدستورية. ليس على خلفية رفض عين التينة للخطوة ومدى مساهمتها في فتح كوة صغيرة يمكن الدخول منها الى منطقة الحل، بل لأن موافقته النهائية رهن التفاهم المسبق على طريقة احياء جلسات الحكومة، لتكون الجلسة الاولى لها مسرحا للبحث في المرحلة الثانية. فإقالة اي وزير تحتاج الى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء كما يقول الدستور. وليس في الامر سرا فإن بري هو من بين الداعين الى تجميد هذه الجلسات حتى الانتهاء من تسوية الخلاف القائم على دور المحقق العدلي في قضية تفجير المرفأ القاضي طارق البيطار، وما إصرار وزرائه ومعهم وزراء حزب الله على «قبعه» من موقعه الاّ ترجمة لهذا الموقف المتصلب أيا كانت الكلفة المقدرة لمثل هذه الخطوة.

 

وامام هذه المعادلة البسيطة التي لا تحتاج الى كثير من التفسير، ظهر ان ميقاتي الذي يخوض التجارب الحكومية المرة منذ تشكيل حكومته في 10 ايلول الماضي لم يتمكن من حمايتها والحفاظ على الحد الادنى من التضامن الحكومي قبل ان تنفجر في الجلسة الرابعة التي عقدت في 12 تشرين الاول الماضي. وها هو اليوم يواجه ازمة قد تكون مصيرية ما لم يتمكن من توفير اي مخرج يؤدي الى احياء الاتصالات مع المملكة العربية السعودية ويعطي الوسطاء الدوليين ورقة مهمة لمعالجة الأزمة الديبلوماسية التي لم تتوقف عند بعض الإجراءات الديبلوماسية التقليدية بل تجاوزتها إلى عقوبات إقتصادية وتجارية شلت العلاقات بين لبنان والمملكة وجاراتها الخليجية.

 

وتزامناً مع هذه الوقائع والانطباعات السلبية، لا يخفي المراقبون قلقهم من امكان ان تضيف المملكة عقوبات اضافية تستهدف اللبنانيين، وان كانت الاتصالات الدولية قد ضمنت لجمها عند هذه الحدود حتى اليوم. ولكن ذلك قد لا يكون مضموناً فأي تطور سلبي على الساحة اللبنانية يمكن ان يستفز الدول الخليجية يمكن ان يقود الى مثل هذه الإجراءات القاسية. فالرأي العام السعودي خصوصا والخليجي عموماً مهيأ لأي اجراء قاس في حق لبنان واللبنانيين على خلفية ما يعيشونه من احتقان نتيجة استهجانهم للدور الذي يؤديه «حزب الله» في اليمن وما رافقها من عمليات خارج مناطق المواجهة العسكرية المباشرة. ولم ينس الخليجيون بعد ما تركته القلاقل الداخلية التي عاشتها بعض دولهم منذ سنوات عدة سبقت حرب اليمن، من تلك التي شهدتها مدينة القصيم في المنطقة الشرقية من السعودية الى الكويت والامارات العربية المتحدة وقطر والبحرين، حيث انتشرت الشبكات الارهابية والمالية الداعمة للحزب التي كشفتها هذه الدول في فترات متفاوتة قبل ان تباشر بفرض عقوبات طاولت مكونات وشخصيات خليجية واخرى لبنانية ما زال بعضهم في السجون وأُبعِد آخرون الى لبنان.

 

ولا تقف المقاربة لحجم الازمة التي نعيشها عند هذه المخاوف، فالاتصالات التي استدعت تدخل دول وحكومات صديقة لمساعدة لبنان على تجاوز هذه الازمة، انطلقت وبات الرهان عليها معقودا بعد فشل المبادرات الداخلية. وهو ما دفع المراقبين الى التعبير عن جملة مخاوف، إن بات الحل رهنا بأي تقدم خارجي يمكن ان ينعكس حلحلة على الساحة الداخلية. ومرد هذه المخاوف إلى ان العلاقات بين العواصم التي وعدت بالتدخل لدى الرياض، ليست على علاقات جيدة وطبيعية معها. فالخلافات مع واشنطن حول عدد من القضايا الخليجية والدولية لا تحتاج الى ما يؤكد وجودها، وهي مدار بحث على اكثر من مستوى، لا سيما منها تلك التي تتصل بحجم مخاطر ما بلغته القدرات النووية الايرانية وحرب اليمن. وكذلك لم يظهر ان باريس قادرة على إحداث تغييرات في الاستراتيجية السعودية بعدما ربط وزير خارجيتها الازمة مع لبنان بالإمتدادات الايرانية في المنطقة وجعلها ورقة من اوراق المفاوضات المجمدة بين ايران ومجموعة الدول الـ (5+1) كما على مسار المفاوضات المباشرة بين الرياض وطهران التي لم يعلن بعد انها حققت اي إنجاز حتى اليوم. فالجميع يدرك ان ايران ما زالت ترفض ان تتناول مفاوضات فيينا أو بغداد أياً من الملفات التي تتصل بالأزمات التي اتهمت بالتورط فيها. فلديها ما يكفي من الحجج والاعذار لاعتبار ان ما يجري في سوريا ولبنان واليمن شأن داخلي يعني هذه الدول. فالنزاع في سوريا بين النظام ومجموعات إرهابية وهي تقف الى جانب النظام بموجب استدعاء رسمي وشرعي، وان من تناصرهم كـ»حزب الله» في لبنان والحوثيين في اليمن يتمتعون بما يكفي من القوة ليكونوا قادرين على المواجهة، وان العلة تكمن في التدخلات الخارجية والدولية بشؤون هذه الدول.

 

على هذه الخلفيات، وبالنظر الى حجم التعقيدات الداخلية التي لا توحي بإمكان التوصل الى صيغة حل. وهو ما يحيي سيناريو يرمي بموجبه ميقاتي استقالته في وجه الجميع في الداخل والخارج، فإن ذلك سيدفع تلقائيا بالإضافة إلى المضاعفات الخطيرة، الى تزخيم الوساطات الخارجية التي حذرت منه. وعندها لا يمكن سوى العودة الى التجارب السابقة التي قادت الى تفاهمات فرضت على اللبنانيين توفير «الخدمات المتبادلة» للاحلاف الكبرى من دون مراعاة مصالحهم. فيتساوون جميعهم في الخسارة امام اي عملية تؤدي الى اقتسام النفوذ. وسنكون عندها أمام مشهد جديد لا رأي لنا فيه ولا يمكن تقدير ما ستحمله من نكبات تضيف الى مآسيهم مزيدا منها، فلنستعد لها بكل مفاجآتها.