بدأت الحكومة اللبنانية سلسلة من المفاوضات الشاقة والدقيقة مع وفد من صندوق النقد الدولي، الذي صار «ممراً إلزامياً» لدعم خطة «الإنقاذ الاقتصادي» كما قال الرئيس ميشال عون، بعد معارضة تراجعت إلى حدود التحفظ من «حزب الله»، لكن من الواضح أنها ستكون رحلة شاقة، وليس من المضمون إطلاقاً أنها يمكن أن تصل إلى نتائج تساعد لبنان مالياً على النهوض من هوة الإفلاس التي ينحدر إليها، في حين تتزايد المخاوف من انفجار شعبي عارم، مع ازدياد نسبة البطالة التي تجاوزت الـ52 في المائة، ونسبة من هم تحت خط الفقر وقد وصلت إلى 35 في المائة، في وقت يستمر النزف، وتعتمد الدولة المفلسة على ودائع الناس المتبقية في المصرف المركزي، لتمويل شراء الحاجيات الضرورية كالمحروقات والطحين والأدوية.
لكنها سلة مثقوبة، بل إنها مجموعة من الثقوب السوداء التي تبتلع كل شيء تقريباً؛ ولهذا كان الاهتمام منصباً مثلاً في الأيام الماضية على الحدود الفالتة بين لبنان وسوريا، حيث يتم تهريب المازوت والبنزين والطحين المدعوم من الدولة اللبنانية، وهو ما يكبدها خسائر تصل إلى 400 مليون دولار في السنة، وتبيّن أن هذا الأمر يعود إلى أكثر من عشرة أعوام!
قبل التوسع في هذا الموضوع الذي يحظى برعاية من «حزب الله»، قد يكون من المستغرب أن تعلن الحكومة يوم الأربعاء عن تفاؤلها ببدء المفاوضات مع صندوق النقد، في حين ليس هناك في الواقع ما يبعث على التفاؤل؛ فعشية انطلاق المفاوضات، وجّه المجتمع الدولي رسالة قوية إلى بيروت، عندما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إن على الحكومة والجيش العمل على نزع سلاح «حزب الله»، محذراً من «تدخل هذه المنظمة العسكرية في سوريا»، وذلك في خلال مناقشة مغلقة في مجلس الأمن حول الموضوع، وأكد غوتيريش، «ما زلنا نحث الحكومة اللبنانية على اتخاذ كل التدابير اللازمة لمنع (حزب الله) والجماعات المسلحة الأخرى من الحصول إلى الأسلحة وبناء القدرات العسكرية خارج سلطة الدولة اللبنانية»!
طبعاً هذا الموقف الدولي ليس جديداً، فهو واضح ومعروف منذ زمن قبل أن يقوم الحزب بتشكيل حكومة اللون الواحد التي تفاوض صندوق النقد للحصول على دعم بالمليارات، في حين تبدي الدول المانحة الكبرى تخوفاً واضحاً من أن تذهب مساعداتها إلى الحزب، ومن المعروف أن عواصم الدول الكبرى في مجلس الأمن هي التي تموّل صندوق النقد الدولي، ولهذا كان واضحاً منذ البداية، أن «الممر الإلزامي» الذي تحدث عنه عون، ليس اقتصادياً ومالياً فحسب، بل هو أولاً سياسي وسيادي يفرض على الدولة اللبنانية أن تكون سيدة قرارها، وأن تعود على الأقل إلى الالتزام الفعلي بما نص عليه مثلاً البيان الختامي الذي صدر عن «مؤتمر سيدر» في عام 2017.
ومن الواضح هنا، أن الدول المانحة تشترط منذ ذلك الحين، وحتى قبل انفجار الثورة الشعبية في لبنان، التي يفرملها «كورونا» وقتياً طبعاً، أولاً أن تكون أحادية السلاح في يد الدولة اللبنانية، وأن تلتزم عملياً سياسة النأي بالنفس، ولا تكون منطلقاً للافتراء والتهجم على دول الخليج تحديداً، وأن تبتعد عن أن تكون رهينة محور الممانعة، كما يسحبها «حزب الله»، وخصوصاً منذ تشكيلة حكومة اللون الواحد، وقد وصل الأمر أخيراً بعد انفجار أزمة الدولار، إلى اكتشاف وجود صرّافين إيرانيين في ضاحية بيروت الجنوبية، التي شكلت معقلاً موازياً للتلاعب بسعر الدولار، في حين كانت تتعالى الاتهامات ضد المصرف المركزي والمصارف اللبنانية، فيما بدا أنه خطة ممنهجة لتغيير طبيعة النظام الاقتصادي الحر في لبنان، وقد وصل الأمر إلى حد إعلان مسؤولين في «حزب الله» وآخرهم حسن نصر الله يوم الأربعاء الماضي، أن هناك بدائل عن الغرب وصندوق النقد الدولي يمكن الاعتماد عليها، في إشارة صريحة إلى الصين وإيران، رغم أن الصين تعاني من العقوبات الأميركية، وإيران تطلب صراحة أربعة مليارات دولار دعماً من صندوق النقد الدولي الذي يتهمه الحزب، أنه من أدوات «الاستكبار العالمي» في إشارة إلى الولايات المتحدة، التي تلقّت أخيراً إشارات ضمنية من المرشد علي خامنئي عن استعداده لمفاوضتها.
بالتوازي مع بدء المفاوضات مع وفد صندوق النقد، كانت قد انفجرت في بيروت فضيحتان؛ فضيحة الفيول المغشوش الذي كانت قوى سياسية تستفيد منه بمليارات الدولارات منذ عام 2010، وفضيحة تهريب ملايين لترات المازوت والبنزين وكميات كبيرة من القمح يومياً، وكلها مواد مدعومة من المصرف المركزي، إلى سوريا حيث وصلت أرباح المهربين ذوي السطوة والذين يمسكون بالمعابر الحدودية إلى مئات الملايين!
مصادر مصرفية في بيروت استغربت استمرار الصمت الذي تلتزمه حكومة حسان دياب بإزاء كل هذا، وهي تقدّر أن المبالغ التي استنزفتها عمليات التهريب أو حتى الاستيراد لصالح الأسواق السورية بالثمن اللبناني المدعوم، تزيد على عشرين مليار دولار في السنوات الخمس الأخيرة، وهذ المبلغ يشكّل عملياً الفارق بين احتياطات مصرف لبنان التي كانت أربعين ملياراً وصارت الآن عشرين ملياراً!
وكانت صحيفة «الفايننشال تايمز» نشرت تقريراً عن حركة ازدحام الشاحنات بين بيروت ودمشق، وأن هناك سيارات تحمّل حزماً من الدولارات من محال الصرافة اللبنانية إلى سوريا، وربما إلى إيران أيضاً.
أمام هذا الدوي دعا عون مجلس الدفاع الأعلى إلى اجتماع، وهو ليس الأول من نوعه؛ لبحث عملية ضبط المعابر على الحدود، وأعلن أن عون طالب بعدم التهاون في هذه المسألة، وشدد على ضرورة اتخاذ أقصى التدابير ضد المخالفين، وإلى ضبط تهريب المواد والبضائع، لكن دياب الذي عرض الانعكاسات المالية على الخزينة اللبنانية، لم ينسَ أن يتطرق إلى «المعوقات اللوجيستية» التي تحول دون ضبط الحدود البرية!
قبل أن يقرأ اللبنانيون بيان مجلس الدفاع الأعلى ليفهموا على الأقل ما هي هذه المعوقات اللوجيستية التي تحدث عنها دياب، كان حسن نصر الله يضع نقاطه على بيان الدولة، أولاً بالقول إن لبنان في حاجة إلى إعادة ترتيب العلاقات مع سوريا، مع أن الموضوع موضوع تهريب لا موضوع علاقات، وأنه يرى أن هذا التهريب لا يمكن أن يعالج إلا بالتعاون مع سوريا، وحتى لو انتشر الجيش اللبناني على كل الحدود، لن يتمكن من أن يمنع التهريب، وأن الحديث عن انتشار قوات دولية هو «رهان لتحقيق أهداف العدوان الإسرائيلي».
غريب، هذه ليست المرة الأولى التي تبحث الدولة مسألة الحدود الفالتة والتهريب الذي يستنزف لبنان، وهذا ليس خافياً لا على صندوق النقد الدولي، ولا على الدول الكبرى الممولة، التي أعلنت شرطها على لسان الأمين العام غوتيريش مع بدء المفاوضات، وكان واضحاً تماماً أن دعم الصندوق، الذي يقول عون إنه بات ممراً إلزامياً لإنجاح خطة الإنقاذ الاقتصادي، ليس مسألة مالية واقتصادية بل هو مسألة سياسية وسيادية، تتعلق تحديداً وفي شكل واضح بأن يكون لبنان دولة تسيطر على كل شبر من أراضيها، وأن تملك حصرية السلاح وتطبق سياسة سيادية حقيقية، وتنأى بنفسها عن الصراعات الإقليمية، في ظل تفاهم سبق أن وعد به عون بوضع استراتيجية دفاعية ملزمة، ولا يحتاج الذين يفاوضون عن حكومة حسان دياب إلى الكثير من الشرح ليعرفوا أن صندوق النقد الدولي، ليس متحمساً لدفع مليارات من الدولارات قد تفيد حكومة يديرها «حزب الله» أكثر مما تفيد الشعب اللبناني!
لهذا؛ ليس خافياً على أحد أنه في ظل البطالة المستفحلة والأزمة المعيشية المتفاقمة، تبدو المفاوضات الصعبة مع الدول الممولة بمثابة سباق فعلي بين ثورة الجياع والمليارات المشروطة بمطالب سياسية سيادية هدفها تقليم أظافر «حزب الله».