يبدو انّ السلطات اللبنانية نجحت في عَولمة سياسة شراء الوقت التي تشتهر بها، بعد أن طرحَ البنك الدولي إطاراً بديلاً من برنامج إنقاذ صندوق النقد الدولي، لتمويل لبنان مقابل الحد الأدنى من الاصلاحات من دون التشدّد حتى في تطبيقها، ما سيؤدي الى تعويم السلطة الحاكمة من جديد ولَجم الانهيار المالي والاقتصادي لفترة محددة، بهدف شراء الوقت الى حين تبلور السياسات الخارجية العالمية تجاه المنطقة.
قد تكون عبارة «المجتمع الدولي لن يترك لبنان ينهار» صحيحة بعد أن أعدّ البنك الدولي مُقترَح مشروع لتقديم قرضٍ إلى لبنان بحوالى ملياري دولار، بعدما أصبح جليّاً انّ الطبقة الحاكمة ستراوح مكانها ولا نيّة لها للاصلاح الجذري والفعلي لإخراج البلاد من الأزمة المالية والاقتصادية المستفحلة.
وبما انّ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على برنامج إنقاذ عالقة منذ ما قبل استقالة حكومة حسان دياب ولغاية اليوم، فإنّ أي أمل بحصول لبنان على دعم مالي كبير مشترط بتنفيذ الاصلاحات، بات ضئيلاً وسط تفاقم الأزمة المعيشية واقتراب انفجارها، ما سيؤدي الى فلتان تام لن يصبّ في مصلحة أجندة المجتمع الدولي.
وبالتالي، فإنّ بروز مقترَح 3RF Lebanon Financing Facility (LFF) for Reform, Recovery and Reconstruction من قبل البنك الدولي لمساعدة لبنان على مواجهة الأزمة الى حين حصوله على أموال المانحين الدوليين، يؤكّد، في حال وافقت عليه أي حكومة مقبلة، أن لا نيّة للسلطة الحاكمة في الشروع بالاصلاحات الحقيقية المطلوبة، وانّ التوافق على برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي أمر لن يحصل لأنّ المكوّنات السياسية عاجزة ورافضة لتطبيق شروط الاصلاح التي سيفرضها برنامج الصندوق لأنها ببساطة لا تتماشى مع مصالحها الداخلية، بالاضافة الى انّ أي إصلاح جدّي سيتم تنفيذه سيعني القضاء على المنظومة الحاكمة، وخَير مثالٍ على ذلك ما يحصل في ملف التدقيق الجنائي في حسابات الدولة ومصرف لبنان.
في المقابل، تشير مصادر مقرّبة من مسؤولين في البنك الدولي الى انّ الأخير قَوّمَ في مقترحه، احتياجات المرحلة القادمة بملياري دولار، إلّا انّ التمويل الذي سيوفّره يقلّ بكثير عن هذا الرقم ولن يتعدّى 100 مليون دولار، وانّ البنك في صدد إعداد بيان توضيحي حول محتوى مقترح 3RF.
في هذا الاطار، أوضحت كبيرة الاقتصاديين في مصرف «جيفريز إنترناشيونال»، عليا مبيّض، انّ لبنان يواجه السيناريوهين المتوقعين للمرحلة المقبلة: الأوَل يعتمد بشكل أساسي على إمكانية تشكيل حكومة مستقلّين ذات مَقبولية مجتمعية وشعبية تقوم بتنفيذ الاصلاحات الذي يطالب بها اللبنانون والتوَصّل على أساسها الى اتفاق على برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي لتأمين الدعم المالي الاكبر (المقدّر بحوالى 30 مليار دولار في السنوات الثلاث المقبلة). أمّا السيناريو الآخر فهو ان يعيش لبنان على «فُتات» المساعدات التي قد لا تتعدى بضعة مئات الملايين.
وشرحت لـ«الجمهورية» انّ المقترح المقدّم من قبل البنك الدولي لإقراض لبنان قد يكون جزءاً صغيراً لا يتجاوز 5 الى 10% من مجموع حاجات التقويم الذي قام به البنك الدولي لآثار انفجار مرفأ بيروت، والذي قدّر حجم الاضرار الناتجة عنه بحوالى 2 مليار دولار. وبالتالي، فإنّ هذا المُقترَح يقدّم الحد الادنى من التمويل المطلوب حالياً للصمود ولتعويم بعض المؤسسات الضرورية لتحريك الاقتصاد.
وأشارت مبيّض الى انّ البنك الدولي ومؤسسات الامم المتحدة وضعت إطار مُقترَح 3RF كاقتراح دعم مؤقّت في حال عدم إمكانية توَصّل السلطات اللبنانية الى اتفاق حول برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي، «لأنّ المجتمع الدولي حريص على عدم انهيار لبنان بالكامل». وفي هذا السياق أشارت الى انّ «مخاوف المجتمع الدولي والأسواق تكمن في عدم تطبيق الاصلاحات المطلوبة».
وفيما شدّدت على أهمية تحديد كيفية إنفاق هذا القرض إذا ما تمّت الموافقة عليه، لفتت الى انّ مفاعيله الاقتصادية لن تكون بالمستوى المطلوب إذا لم تترافَق مع الإصلاحات الهيكلية الضرورية على الصعيد الماكرو-إقتصادي والمؤسساتي، نظراً الى حدّة الانكماش الاقتصادي التي قدّرها صندوق النقد الدولي بحوالى 25% للناتج المحلي الحقيقي، لا سيما أنّ الحاجات التمويلية أكبر من ذلك بكثير ومقدّرة بحوالى 5 إلى 6 مليارات دولار في المستقبل. في المقابل، اعتبرت مبيّض انّ حصول لبنان على هذا القرض لا يجب ان يُغنيه عن تنفيذ الاصلاحات الهيكلية بشكل موازٍ يؤدي الى مضاعفة مفاعيله الاقتصادية بشكل يحسّن المناخ الاستثماري العام.
وأشارت الى انّ تحفيز النمو لا يحتاج اليوم الى تدفق الاموال من الخارج فقط، بل الى تحسين نوعيةالانفاق العام وفعاليته، خصوصاً الاستثماري منه، من خلال إصلاح منظومة ادارة المال العام (public financial management) بما فيها الشراء العام وتفعيل الرقابة والشفافية في إعداد الموازنة وتنفيذها.
وبالنسبة الى تمرير القرض من خلال الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية التي لا تتوخّى الربح NGO، شددت مبيّض على ضرورة ألّا يؤدي ذلك الى خَلق اقتصاد موازٍ وإضعاف مؤسسات الدولة المعنيّة الاولى بتنفيذ الاصلاحات المطلوبة وتفعيل السياسات العامة لتحفيز الاقتصاد.
وفي حين أكدت انه ليس من مصلحة أحد أن يُحبط مبادرة البنك الدولي أو أي جهة مانحة أخرى لإقراض لبنان الحد الأدنى من التمويل اللازم، لا سيما إذا ما كان يستهدف المؤسسات الخاصة الخالقة للوظائف، رأت انّ هدف أيّ حكومة مقبلة لا يجب أن يُحاكي السيناريو الأسوأ الهادف إلى الحصول على الحد الأدنى من التمويل فقط، لافتة الى انّ حجم الأزمة المالية والاقتصادية التي يمرّ بها لبنان خطير جدّاً ويتطلّب تأمين الاطار الماكرو إقتصادي المُعافى. وذلك يعني إطلاق عملية إعادة هيكلة للدين والقطاع المصرفي، وتصحيح المالية العامة، وإعادة النظر بسِعر الصرف بشَكل يَخلُق المناخ الملائم للحصول على التمويل الذي يحتاجه لبنان، والذي لا يمكن توفيره سوى عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومانحين دوليين آخرين.
كما لفتت الى انّ المضيّ بمُقترح البنك الدولي لا يمكن أن يكون بديلاً مُستداماً، فهو لن يسمح بانطلاق التفاوض مع الدائنين الدوليين الذين تخلّف لبنان عن السداد لهم، حيث انهم لن يقبلوا التفاوض لإعادة هيكلة الدين الخارجي من دون وجود برنامج لصندوق النقد الدولي ومظلّة دولية، ما سيُفقد لبنان قدرته على ولوج الاسواق العالمية لتمويل نفسه من جديد.