رفض صندوق النقد الدولي الخطة المقدّمة من الحكومة اللبنانية والتي تنصّ على تحميل خسائر المصارف للمودعين. وقد صرّحت المديرة العامة كريستالينا غورغييفا، أنّ الصندوق سيدعم حصراً برنامجاً إصلاحياً شاملاً وشفافاً. ولعلّ هذه هي الصفعة الثانية التي يوجّهها الصندوق إلى الحكومة الحالية، بعد رفضه خطة القيود على حركة رأس المال (Capital Control) التي كان قد ناصرها بشدّة أبرز مستشاري الرئيس ميقاتي. ولعلّ المستشار نفسه هو من ورّط الحكومة بطرح «تليير» الودائع الذي كان قد رفضه الصندوق رفضاً قاطعاً في أيام حكومة حسان دياب بسبب أثره التضخمي، فأعادت الحكومة الحالية طرحه لتبلى بالرفض المؤكّد.
وأعلن رئيس بعثة الصندوق للبنان راميريز ريغو، عن 5 أولويات إصلاحية هي: (1) تحقيق توازن مالي في الموازنة العامة، (2) معالجة الأزمة المصرفية، (3) تحقيق استقرار نقدي، (4) إصلاح القطاعات المحتكرة من الدولة وعلى رأسها الكهرباء، و(5) تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد والشفافية. ولم تنجح الحكومة في طرح خطة تحقق أيّاً من هذه الإصلاحات، بل كان المسار معاكساً لذلك على النحو التالي:
أولاً: فشل مشروع موازنة العام 2022 في تحقيق توازن مالي، وأفضى إلى عجز يبلغ حوالى 7 تريليون ليرة قبل احتساب سلفة الكهرباء، وذلك رغم الزيادات الهائلة للرسوم والتعريفات والضرائب، ورغم الاستمرار في التخلّف عن سداد سندات اليوروبوند. ويعود هذا العجز إلى زيادة في نفقات الدولة على الموظفين واعتماد سياسة دعم المحروقات. وقد خلت الموازنة من أي رؤية إصلاحية لإعادة هيكلة القطاع العام، ولم تتطرق إلى سبل مكافحة التهرّب الضريبي والجمركي، واكتفت بزيادة الأعباء على القلة التي ما زالت تدفع. ونظراً لعدم قدرة الحكومة على الاستدانة من الأسواق المالية، فسيتمّ تمويل هذا العجز من خلال زيادة حجم العرض النقدي (Money Supply – M1)، بمعنى أنّ ما سيُعطى للموظفين بيد سيؤخذ منهم ومن بقية الشعب اللبناني باليد الأخرى عن طريق خسارة الليرة لقيمتها.
ثانياً: تفرض خطة الحكومة لـ»تليير» الخسائر هيركات (Haircut) مفتوحاً على الودائع يتغيّر مع تغيير سعر صرف الليرة. فعلى سعر صرف 30,000 ليرة للدولار، يبلغ الهيركات 83% على الفوائد المتراكمة منذ العام 2015 و60% على الودائع التي تمّ تحويلها إلى دولار بعد تشرين الأول 2019 و33% على شرائح الودائع التي تفوق 150,000 دولار. وإذا وصل سعر الصرف إلى 50,000 ليرة، تفرض الخطة هيركات 90% على الفوائد و76% على الودائع التي تمّ تحويلها إلى دولار و60% على شرائح الودائع التي تفوق 150,000 دولار. وفي جميع الأحوال، تشطب الخطة شريحة الودائع التي تفوق 500,000 دولار وتحوّلها إلى أسهم وسندات. ولعلّ تخفيض سعر الصرف إلى حدود 20,000 ليرة للدولار يهدف إلى الإيحاء بهيركات أصغر، إلّا أنّ «تليير» الودائع يؤدي في الحقيقة إلى زيادة العرض النقدي (M1) بأكثر من عشرة أضعاف، ما يعني خسارة إضافية هائلة لقيمة الليرة، وهذا ما رفضه صندوق النقد.
ثالثاً: تؤدي زيادة العرض النقدي (M1) الناتجة من عجز الموازنة العامة وعن خطة «تليير» الخسائر، إلى زيادة كمية الليرة التي يملكها الناس في المصارف. فإذا تمّ السماح لهم بسحب هذه الليرات من المصارف، ازداد الطلب على الدولار وانهار سعر صرف الليرة وارتفعت معدلات التضخم. أما إذا وضع المصرف المركزي قيوداً وسقوفاً على سحب هذه الليرات من المصارف وحدّد كوتا للمصارف كما يفعل اليوم، فستخسر الليرة المصرفية قيمتها مقارنة بالليرة النقدية. إذ يقتطع الصراف اليوم ما يتراوح بين 5% و10% لتحويل شيك الليرة إلى ليرة نقدية بسبب القيود على السحب. وسترتفع نسبة الاقتطاع مع زيادة الليرة في المصارف من جهة وعدم قدرة المواطن على سحبها من جهة أخرى، ما يعني فعلياً أنّ خطة الحكومة سينتج منها سعر صرف جديد بين الليرة النقدية والليرة المصرفية بدل توحيد أسعار الصرف، هذا بالإضافة إلى الانهيار المتواصل لليرة مقابل الدولار.
رابعاً: ألحق احتكار الدولة لقطاع الكهرباء والانقطاع المتواصل الناتج منه ضرراً كبيراً بالقطاعين الصناعي والزراعي، اللذين يعتمدان بشكل كبير على الطاقة. وتتحمّل خسائر الكهرباء جزءاً من مسؤولية الانهيار المالي الحالي بسبب اعتمادها المتواصل على الموازنة العامة واستنزافها لدولارات المصرف المركزي. كما أدّى احتكار الدولة للاتصالات إلى غلاء التعرفة (قبل الأزمة) وبطء الخدمة، ما منع نشوء قطاع تكنولوجيا في لبنان. وقد حرم احتكار النقل الجوي وارتفاع أسعار تذاكر السفر الناتج منه من أعداد كبيرة من السياح فضّلت السفر إلى وجهات منافسة مثل تركيا ومصر وقبرص واليونان. من هنا، لن تكون سياسة رفع التعرفة في هذه القطاعات كافية ما لم تترافق مع تفكيك الاحتكارات وفتح السوق بحرّية تامة أمام شركات خاصة تستثمر في القطاع دون استنزاف الموارد العامة وتنافس كهرباء لبنان و»أوجيرو» و»طيران الشرق الأوسط».
خامساً: جنح العديد من الوزراء في الحكومات المتعاقبة نحو إجراء الصفقات العمومية في المجالس والصناديق والهيئات والمؤسسات العامة، لتفادي رقابة إدارة المناقصات. ومع تشديد المجتمع الدولي على تعزيز الحوكمة والشفافية ومكافحة الفساد، أقرّ مجلس النواب قانوناً جديداً يحوّل إدارة المناقصات إلى هيئة الشراء العام، بحجة توسيع نطاق عملها ليشمل جميع الصفقات العمومية. أما في الحقيقة، فقد انتزع القانون الجديد من هيئة الشراء العام مسؤولية إجراء المناقصات وجرّدها من القدرة على إلغاء الصفقات المخالفة للقانون، واقتصّ من مدير عام المناقصات الذي رفض تمرير صفقات مخالفة للقانون، عبر تحويله إلى رئيس مؤقت ووضعه بتصرّف مجلس الوزراء. وقد أعطى القانون الجديد مجلس الوزراء صلاحية تعيين أعضاء هيئة الشراء العام، التي يفترض أن تقوم بمراقبة الصفقات العمومية التي يجريها الوزراء، ما يجرّد الهيئة من استقلاليتها ويفتح الباب بشكل صارخ أمام تضارب للمصالح.
ويدفع بعض مستشاري الحكومة باتجاه سيناريو انهيار يشبه ما حصل في زيمبابوي وفنزويلا، عبر الإصرار على تخليص المصارف من التزاماتها تجاه المودعين قبل إجراء أي إصلاح آخر. فهم تارة يسوّقون للقيود على حركة رأس المال وطوراً للهيركات الشرس عن طريق الـ»تليير». ويستخدم هؤلاء في سبيل ذلك شعارات رنانة مثل «مرونة سعر الصرف» التي تعني تكبيد اللبنانيين والقطاعات المنتجة ثمن الأزمة، عن طريق المزيد من انهيار الليرة. ولكن محاولة إنقاذ المصارف على حساب الاقتصاد ستفضي لا محالة إلى الإطاحة بالاثنين معاً، وهو ما يفهمه الصندوق ويعيه تمام الوعي.
وتمتلك الحكومة اللبنانية خيارات أخرى أبرزها الاعتماد على فريق عمل دولي يشمل سلف غورغييفا على رأس صندوق النقد الدولي واقتصاديين بارزين ساعدوا عدداً من الدول حول العالم في التفاوض مع الصندوق والخروج باتفاقيات تخدم مصالحها. وقد اقترح هؤلاء على لبنان مقاربة مختلفة تعيد ترتيب الأولويات، فتبدأ بتأمين استقرار نقدي صارم يحرّر الليرة من جميع القيود ويوحّد أسعار صرفها. ومن شأن الاستقرار النقدي أن يرفع من حجم تدفقات الأموال إلى لبنان ويسمح للمصارف بالقيام بأعمال منتجة من خلال إقراض القطاع الخاص وإعادته إلى النمو. ويؤدي هذا الانتعاش إلى تحسين قدرة لبنان على استعادة التوازن المالي وسداد ديونه، ما يسمح للمودعين باسترداد نِسب أكبر من ودائعهم، مما هو الحال في خطة الحكومة التي تمّ رفضها. وقد طرح هذا الفريق خدماته المجانية على الحكومة وما زال ينتظر الإجابة؛ عسى أن تسرّع إخفاقات الحكومة المتواصلة مع الصندوق الإجابة المنتظرة.