قد لا يكون اللجوء الى صندوق النقد الدولي لمعالجة تردّي الحال الخيار الأفضل أو الوحيد. لكن الانتفاض للكرامة الوطنية لدى ذكر هذا الاحتمال هو ردُّ فعل بائس وخبيث.
السلطة الفاسدة نفسها التي ارتكبت الموبقات، تعلم أن الصندوق هو المؤسسة الوحيدة القادرة على مدّنا فوراً بـسيولة 12 مليار دولار ضرورية لإعطائنا جرعة أوكسجين. وهي السلطة التي يرفض أطرافها الأوصياء على الحكومة تولي الصندوق رعاية تفليسها البلاد. يخشون معالجاته الجراحية ويفضلون مراهم الغش لتغطية جرائمهم المالية وهندسات “الزعرنة” التي ساهمت في ضياع ودائع الناس.
لا يبشر البيان الوزاري العتيد الا بإصلاحات على استحياء، فيما لا يحتمل وضعنا نصف اجراءات. لكن أهل السلطة يسعون الى ذلك. فلم نشاهد أحداً من أبنائهم وقف ذليلاً في مصرف أو فقد عملاً أو تأثر مستوى عيشه بالأزمة الخانقة. لذلك يفضلون أنصاف الحلول… وتسمّيها يا فخامة الرئيس مجرد “إجراءات موجعة” رغم علمك بأنّها اكثر من “خوازيق”.
يعلم أهل السلطة أنّ صندوق النقد الدولي سيدقّق في الموازنات وسيبلغهم بأنّ نصف الموظفين الذين حشوا بهم الوزارات والمجالس لأسباب طائفية ومذهبية وانتخابية عبء ثقيل. وهنا “أم الكبائر”. فكيف لمن استباحوا الإدارة أن يقبلوا بصرف المحاسيب والأزلام ومفاتيح الانتخابات؟.
سيطالب الصندوق بلا شك بوقف مهزلة الكهرباء وبزيادة ضريبة القيمة المضافة ووقف الدعومات وتحرير “سعر الصرف” المقدس، الذي هو “درة تاج” الحاكم العبقري للمصرف المركزي. ولن يتوقف عند هذا الحد فهو سيراقب الاصلاحات والخصخصة المضبوطة بشروط وغيرها من الاجراءات… وستكون حجة الرافضين أنهم لا يريدون المسَّ بلقمة الناس وسيحافظون على أملاك الدولة، متناسين أنهم سرقوا المشاعات وأكلوا “البيضة والتقشيرة” ولم يتركوا إلا الفتات.
سيفرض الصندوق مراقبة الحدود والمرافئ الشرعية وغير الشرعية لمنع التهريب وتأمين الجمارك والجباية. وهذا الاجراء خط أحمر. فكيف سنراقب حدوداً سائبة بقرارات رسمية وبيانات وزارية؟ وكيف سيقفل الخط العسكري الشهير مع النظام السوري؟ وكيف سنذهب ونجيء للمشاركة بمعارك المحور الايراني؟
لئلا نتوهم المسألة تقنية بحتة وحلَّها في أوجاع يتحملها اللبنانيون ثم “يمشي الحال”. ينبغي مصارحة الناس أنّ لا صندوق النقد ولا غيره سيأتينا بحلّ ثابت ودائم للانهيار، ما لم تستعد الدولة حقها في أن تكون مكتملة الأركان في كلّ المجالات. والعمل لتحقيق هذا الهدف النبيل لا يلغي السعي لتحديد القعر الذي نحن فيه. أما حديث “الكرامة” فتُرَّهات تثير السخرية والارتياب.